سليمان محمود

لقد أصبح الستريمرز، واليوتيوبرز، وصنّاع المحتوى الفارغ، نماذجَ يُحتذى بها، بل إن بعضَهم يستجدون المتابعين و"لَايْكاتِهم"، بارتدائهم "طابليَّةَ" الأساتذة، ليرشدوا متابعيهم غير الراشدين من التلاميذ، بحلول سحرية، إلى سبُل النجاح في الامتحانات الإشهادية، بأقل مجهود ممكن، مستغلين فراغاً كبيراً تركه المختصون، والمسؤولون عن التربية والتعليم، في ظلِّ غياب أي خطاب رسمي، أو إعلامي مهنيٍّ مسؤولٍ، يُعيد الاعتبار للعلم والمعرفة، ويربط بين الدراسة وكرامة العيش، وبين المدرسة والقِيَم. 

 

والنتيجةُ، كما يبدو لي، أنه صارت لدينا أجيالٌ تقيس النجاح بعدد المتابعين، وتعتبر الدراسة عقوبةً تنتهي بالبطالة، وبشواهد بلا فائدة، وترى في الأستاذ ذلك الكائن المملَّ الذي شاخت "عقليتُه"، ولا يملك حساباً على تيك توك، وينظرون إليه شخصاً "معقَّداً"، لا يعرف كيف يُضحِك "الدراري" في 15 ثانية، في رييلز ظريف.

 

لقد بِتْنا الآن نعيشُ مرحلة التعايش مع مشاهدَ تسائل واقع التربية والتعليم في مغرب اليوم، حيث نشاهد، عقب كل امتحان، أفواجاً من التلاميذ يخرجون من قاعات الاختبار، حاملين معهم شعاراتٍ احتجاجيةً، وملامحَ غاضبةً، وسخطاً اجتماعياً لاذعاً، لأن الأسئلة صعبةٌ جداً، ولأنهم "معمرهم قراو هادشي"، وهم يكيلون السبَّ للأساتيذ المكلفين بالمراقبة الذين لا ''يتعاملون"، ولم يتركوهم يغشون، ليُفرِحوا "الحنَانة"، مستغربين من كون الدولة -بكل ما تملكه من أجهزة أمنية وبشرية- منعتهم من ممارسة حقهم المقدّس في "النقيل".

 

هكذا، لم يعد الغش ظاهرة تُدان، بل تحوّل إلى مطلب ديمقراطي مشروع، يُرفع على الأكتاف مثل قضايا الحريات، وحقوق الإنسان، وتلوثتْ شبكات التواصل الاجتماعي بصرخات تلاميذ المؤسسات العمومية، في "تصريحاتهم الإعلامية القاصرة": 

 

ــ "بغينا ننقّلو، بغينا غا نديو هاد الكرطونة نفرحو الوالدين"؛

ــ "شي أساتذة بحال شي يهود، مكايناش الرحمة فقلوبهم، حيدو لنا التليفونات"؛ 

 

يرددون عبارات مقززة، ويعبرون عن فقدان الهوية، وغياب أي رؤية، وعن سوء تربية، وعن موت القيم، في طقوسٍ إعلاميةٍ رخيصةٍ، ومشوَّهة ومشوِّهةٍ، حيث يهرع أصحاب "الميكروفونات ديال علي إكسبريس"، ممن نصبوا أنفسهم صحفيين وناشرين، إلى أبواب المؤسسات العمومية، ليصطادوا في عيون التلاميذ المُنهَكين لحظات الغباء والارتباك، ويقطفوا منها عناوين ساخنة، ومشاهد ساذجة، ترفع نسب المشاهدة.

 

وما يثير الاستغراب، أن هذا الطقس لا يشمل سوى تلاميذ التعليم العمومي، وكأن التعليم الخصوصي محرَّم إعلاميّاً، أو كأن أبناءه لا يجتازون تلك الامتحانات، ولا يمرون من ارتباك و"ستريس"، حيث يختفون ولا نراهم في تصريحات "التسطيح الإعلامي"، وكأن لديهم مناعة ضد الغباء العام، أو ربما لأن أولياء أمورهم أقوى من عدسات الكاميرا بوعيهم، ويبقى أبناءُ الفقراء الحلقةَ الأضعف، حتى في المهانة والإذلال وتعميق تشويه المشوَّه.

 

لكن قبل أن نُشهر سيوفنا الأخلاقية، وننهال على هؤلاء اليافعين بنعوت قدحية، مثل "جيل التيك توك"، و"جيل الضباع"، بتعبير جسوس، ينبغي أن نطرح السؤال الحقيقي: من ربّى هؤلاء؟ من شحنهم بمنطق: "دير بحال صحابك اللي نجحو بالغش"، ومن رسّخ في وعيهم، ولا وعيهم، أن المدرسة مجرد محطة عبور نحو البطالة، وأن الشهادة وثيقة تافهة في بلاد لا يعترف فيها أحد بالكفاءة، إلا إذا كانت مشفوعة بحساب بنكي ممتلئ، وظهر قوي، أو "كاشي" حزبي، أو "بَّاك صاحبي"؟

 

لنفترض جدلاً أن تلميذاً من هؤلاء، قرر أن يكون "شريفاً" نزيهاً، ويعتمد على نفسه، ورفض الغش، وضرب عُرضَ الحائط مقولةً: "من نقل انتقل، ومن اعتمد على نفسه بقي في مكانه"؛ بماذا سيُكَافأ؟ بنقطة متوسطة، و"تصبينة'' عائلية بأنه "ما عرفش يتصرف"، بينما "ولد الحاجة خديجة" الكسول الذي نقل على راحته، لأن جاره الأستاذ وصَّى عليه، سينجح، وربما يصبح هو نفسه أستاذاً، أو صحافيّاً من حملة ميكروفونات "علي إكسبريس".

 

لقد بات كل شيء في هذه المنظومة مقلوباً؛ فمن يجتهد يُكافأ بالتهميش، ومن يغش يرقى بقدراته في "تدبير الفساد"، وهو ما يدفع كثيرين للتساؤل ساخرين: "علاش الفساد النخبوي مسموح به، وفساد ولاد الشعب ممنوع؟ واش حنا ماشي مواطنين بحالهم؟".

 

في حقيقة الأمر، إن ما وصلنا إليه يعكس خللاً مخيفاً في المنظومة كلها، ولا يُمكن تبرئة أحد من هذا الوضع؛فالبيت، قبل المدرسة، مريضٌ، إذ إن كثيراً من الآباء يكتفون بالإنجاب فقط، ولا يكلفون أنفسهم همَّ التربية التي صارت عبئاً يُسند للشارع والموبايل. أما المدرسة، فقد تحوّلت إلى مركز لاحتواء الضجر الجماعي، حيث يُعامَل فيه الأستاذ كموظف إطفاء، يطفئ نيران المراهقة، بدل إشعال شعلة العلم، وإطفاء نيران الجهل. والأكثر من ذلك أنه صار، هو نفسُه، محل اتهام، إذ يُحمّله الجميع وِزْرَ انهيار مؤسسة لم تُمنح أدوات الحماية، ولا أبسط مقومات الهيبة.

 

وما يزيد المشهد عبثية أن التلميذ، حين لا يجد مكانه في منظومة التعليم، يُصنّف سريعاً ضمن التائهين، في الوقت الذي فشل فيه الجميع في أن يرسم له بوصلة واضحة. أي أننا نصنع القتامة، ثم نلوم الطفل وكأنه من أطفأ النور.

 

ومع كل هذا، فالمشهد لا يخلو من نقاط ضوء، ولو كانت ضئيلة؛ فهناك تلاميذ نابهون، فعلاً، وهناك طاقات نائمة تنتظر من يُوقظها. ولكن هل نملك نحن، كدولة ومجتمع وأسر، النية الصادقة لفعل ذلك؟ هل نحن مستعدون لإعادة بناء جسر الثقة بين المدرسة والمجتمع، وبين العلم والحياة، وبين التلميذ ومستقبل أفضل له، أم أن دمقرطة الغش، مثلها مثل دمقرطة الفقر، ستُصبح شعار المرحلة، وحقّاً تقدميّاً ينبغي الدفاع عنه، لخلق المساواة في الفساد بين النخب والشعب؟

 

وخلاصة اللوم، أننا سنظل، بين هذا وذاك، ندور في الحلقة المفرغة؛ فنُدين التلميذ، ونجلد الأستاذ، ونتغاضى عن أصل الداء، لنعود بعد عام إلى المسرحية نفسِها، بنفس الميكروفونات، وذات العبارات الساخطة، صارخين منددين، منتقدين ومتحاملين، غارقين في الفراغ ذاته.