زايد جرو - الرشيدية / جديد انفو

أسْرج علال لفقيه   خيل الهمة لسنين خلت، وعاد بها نحو السهوب التي لا تُحد، ووقف وِقفة المتهيب، ولم يشكُ لا العجز ولا التقصير، الرغبة الجامحة في الطموح لم تفارقه أبدا، ولم تَخْبُ شعلتها على مر الأعوام، فتحولت مع الأيام هاجسا مِلحاحا نحو درج التسلق.

 امتلأ جوف علال سابقا بعلم لا يجود بمثله زمان، حتى وصل حد السُّكر والثمالة من دَنِّ جوف الكتب المعتقة الممجدة، استعان بالصبر حاديا وهاديا، داعب أوتار قلبه وأهداب عينيه فرحل لموطن الناي الحزين، فأمضى العمر في نشيج ونواح شوقا وتوقا، وقرون بينيه وبينه أزمان الهمة، وما همَّه كل ما كُتب عنها طوال هذه السنين، وما همُّه في النهاية غير إحساسه، وخبرته، وشهادته وتشغيله ... فجثا على طاولة الشباب كغيره بقاعة الفحص ليتهجَّى المعطى علّه يلج مدرسة الحياة ولو لسنوات قلائل بالتعاقد.

 دق الجرس ومد اليد المتثاقلة ليعد الأوراق التي عليه افتحاصها في أربع ساعات متتالية، فهي أربع حقا في العربية : نص الانطلاق فيها كان ل" جبرا ابراهيم جبرا "اطلع على الأسئلة، تهجى بعضها ولم يميز بين نوع الأنماط السردية، ولم يدرك مغزى محطات الحياة في الكتابة السردية، ولا مقاطعها، ولا الفرق بين تعليل الأحداث والتعليق عليها، ولا موقع المفردات ولا الجمل من الإعراب، ولم يثر انتباهه غير الأسئلة التي تبتدئ بالتذكير والتأنيث : ركب ركبي، صغ صغي، بين بيني، حدد حددي، أعد أعيدي ... فتعمقت لديه إشكالية التذكير والتأنيث في المجتمعات النامية التي قرأ عنها سنين مضت ...

طقطقت مفاصله ،وشده التبول وكثرت المواجع بأحشائه ... فارتجف القلم بين أصابعه ... انقلب علال للوراء وقلب الورقة من اليمين لليسار ومن فوق لتحت، ولم يفهم الوضعية المشكلة، ولا المشكلة الوضعية، ولا الفاعل ولا اسم الفاعل ولا اسم الآلة ولا الكتابة الذاتية ولا أنواعها، فرمق بجانبه فاطمة الزهراء، الزعراء كما كانت تلقب أيام النضال والتي لم تكن تعير الطلبة القادمين من بلاد وَزّون  اي اهتمام ، اكتنز جسمها كثيرا وغارت عيناها المدورتان وما بقي  من  " الزغبية " ومن جمال مُحياها غير بعض الحروف كما يُقال، وهي واقفة في العقبة أكثر منه  فسبحان مبدل الأحوال.... طلب الخروج للمرحاض فرافقه حارس خاص وحمد الله أنها لم تكن امرأة، فتعجب.. كم هو مهم هذا اليوم أصبح له حارس خاص، يسهر على سلامته في الطريق الطويل المؤدي للمراحيض البعيدة ، قضى حاجته بألم  كبير في البواسير وما خرج الخبث من الدبر إلا بشق الأنفس... وعاد يمشي الهوينى وحارسه الشخصي يتبعه من الخلف ،فتذكر بعض ما قرأه سابقا في بعض الأشعار الثورية" من كان منكم عالما سأجعله حارسا لكلبي " فافتحص العبارة لاسترجاع ما له علاقة في المعنى بحاله ، فقطع تفكيره الوصول لباب الحجرة .... دخل من جديد وفكر في الخروج ثانية لأن تفكيره في العبارة انقطع ، ولأنه أحس بقيمته والحارس يتبع خطواته، ورغب في تقمص الدور مرة ومرات ... حذق ذات اليمين وذات اليسار، حك جنبه فطوى أوراقه ووقع وانسحب محاولاً أن يلحق بزمان رحل وانتهى، أقعِده العجز بباب الحجرة فاستطاع أن يتلمس بحاسة القلب أنه أمام قصة حياة فريدة، زاخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر...

رحل علال الذي ناهز الخمسين سنة يمشي الهوينى على طول الشارع العام أزعجته سيارة الإسعاف وسفارة تنظيم المرور، وتذكر أنه لم يذق ذات يوم طعم العيش النقي طول العمر ،وتيقن أنه سيموت عازبا تاركًا وشمَ الخزي على الحياة ... خاطب قلبه قائلا... تنهد أيها القلب ما شئت لأنك أخطأت في الحساب والعد   حين طلبوك في سن الثلاثنيات يوم كان وعيك ثاقبا لتكون حارسا لكلاب بروابط أعناق وراعيا لضباع  بألسن طويلة ومؤنسا لبعض الأسد النقية  القليلة مثل كل النبغاء من سنك، ليكون لك شأن في الحياة فامتنعت ، فبقيت عنيدا  متصلبا منتصبا مرفوع الهامة حتى رحل العمر... مرت ربما آخر تجربة في عمر علال الفقيه  ويقن أن كل العطارين اجتازوا بسهولة حواجز مدن الحب السبع ،بينما لا يزال هو في الزاوية الأولى من الممر الضيق ...رحلت السنون وكانت هذه آخر تجربة في الحياة فعاد لعشق التمني والصبر وترديد ما حفظه عن أبيه، رحمة الله عليه ،لن يغلق الله بابا حتى يفتح أبوابا أخرى والحمد لله على كل أمر وحال.