لحسن الجكاني -الرشيدية /جديد انفو

في سياق ما تعرفه بلادنا من حراك شبابي كان متوقعا، أجدد التأكيد على أن استثمار الدولة في التعليم العمومي هو أعلى الاستثمارات عائداً على الإطلاق، فهو استثمار في بناء العقول، وتحصين للهوية، وضمان للاستقرار، وتحريك الاقتصاد، إنه صمام الأمان الذي يحمي كينونة المجتمع وهو الذي يضمن مستقبلاً مزهراً لأجياله القادمة، ولذلك يجب أن تكون للتعليم الأولوية القصوى، لأنه وبلا منازع، أساس بقاء الدولة وقاعدة استقرارها وازدهارها...

تمثل المؤسسة التعليمية، بمناهجها المتوازنة وقيمها السامية، الخط الدفاعي الأول لحماية الشباب من الانحراف والتطرف والتيه والضياع، فالعقل المستنير بالعلم والمعرفة، والمزود بمناعة فكرية قوية، يصبح قادراً على تمييز الغث من السمين، ورفض خطابات الكراهية و التخريب، ويتحول إلى جدار صد منيع في وجه محاولات الاختراق الفكري والثقافي، ويصبح المتعلم مساهما في البناء والإصلاح لا معول هدم أو عنصر فساد و إفساد، وبذلك تصير التربية والتعليم ضرورة أمنية وقومية، ونقطة الارتكاز الأساسية لأي تنمية بشرية أو اقتصادية ... إذ لا تقاس قيمة المجتمعات بثرواتها الطبيعية فقط، بل بما تستثمره في ثروتها البشرية، والتربية السليمة والتعليم الجيد هما الآلية الأمثل لصناعة الإنسان القادر على الإبداع والابتكار، والمسلح بالمهارات التي يتطلبها سوق العمل المستقبلي، وهو ما يضمن خلق جيل قادر على تدبير الشأن العام و الخاص، منتج، غيور على وطنه، فاعل في اقتصاده، قادر على سياسة بلاده و قيادة دفة التطور التكنولوجي والمنافسة، مما يحقق الازدهار الاقتصادي و السلم الاجتماعي ويحد آنذاك من مشكلات عديدة مثل البطالة والفقر، والأمية و نهب المال العام و الفساد و الإفساد ... وهناك مقولة تحمل حكمة بالغة، وغالبًا ما تُنسب بصيغ مختلفة إلى المهاتما غاندي، قوله :" من كان يعتقد أن التعليم مكلف، فليجرب الجهل."

نحن و إن لم نكن من جيل Z، لكننا كنا ولا زلنا من جيل M ( MAROC أولا و أخيرا )، خريجي المدرسة العمومية، حيث كانت فصولنا الدراسية مختبرات حقيقية لصهر التنوع الاجتماعي (الطبقي) في بوتقة الوطن الواحد، يجلس ابن الفلاح في نفس الطاولة التي يجلس فيها ابن الباشا، وتجلس ابنة العقيد العسكري بجانب ابنة المياوم ، واليتيم بجانب غيره...فيلتقي التلاميذ من مختلف الخلفيات الاجتماعية و الاقتصادية، وتنشأ علاقات عادية، جد طبيعية بين هذا الطيف من أبناء المدينة أو القرية الواحدة، دون مركب نقص أو شعور بالدونية، فالذي ليس له حذاء رياضي ممتاز قد يتفوق في السباق و الرياضة على من يملكه، و قد يأسر تلميذ من عائلة ميسورة الجميع بأخلاقه الرفيعة، و نبله و كرمه الأصيل، بتوزيع الحلوى على زملاء قسمه، أو يبادر في منح بعض أقلامه الكثيرة على من لم يحضرها من أبناء الأسر الفقيرة!!. وبذلك كان يتعزز التماسك الاجتماعي وتغرس القيم بشكل تلقائي.. كنا نتعلم قيم التسامح والتضامن واحترام الآخر، كما كان المعلم والأستاذ يغرس الأخلاقيات والقيم الإنسانية المشتركة، مما يعزز الشعور بالانتماء والمواطنة الفاعلة، ويحد من النزعات الفردية والأنانية، ويبني مجتمعا متماسكا يقوم على التعاون والعدالة الاجتماعية، التي تبدأ من فصل دراسي عمومي واحد، التوجيه والاحترام فيه للمعلم(ة) والأستاذ(ة) والحارس العام والمدير، الذين كانوا بدورهم مهابي الجانب ومحترمين داخل المؤسسة وخارجها.

اليوم منظومتنا التعليمية تواجه تحديات جسام، ومشاكل بنيوية تراكمت حتى صارت عبئا على كل إصلاح صادق لو وجد !!، منها على سبيل الذكر لا الحصر، ضعف البنيات التحتية في العديد من مناطق المغرب، و عدم تحيين البرامج والمقررات في المدرسة العمومية بينما يد القطاع الخاص مشرعة للتدريس ببرامج 2025، و عدم مواكبة المناهج لمتطلبات العصر، أو الفجوة الرقمية، مما يتطلب إرادة سياسية حقيقية، واستثماراً كبيراً غير تقليدي في هذا القطاع الحيوي، وإصلاحاً شاملاً يبدأ من إعداد المعلم المؤهل وتمتيعه بكل الحوافز المادية والمعنوية ، مرورا بتطوير المناهج لتركز على مهارات التفكير النقدي والإبداع، ولا ينتهي بدمج التكنولوجيا بشكل فعال فقط ، وقبل هذا وذاك تنحية كل فاسد مفسد من تدبير هذا القطاع الاستراتيجي في الدولة ، فلن ينجح أي إصلاح مهما ضخت فيه من ميزانيات، إن تم التعامل معه بمنطق التسليع أو منطق المقاولة الرأسمالية الجشعة.

وفي خضمّ المشهد الاجتماعي الحالي، والأحداث الجارية حيث تشهد الساحة ظهور جيل من الشباب، رفع شعارات اجتماعية واضحة، مثل محاربة الفساد والمطالبة بالحق في التعليم والصحة، وفي اليومين الأخيرين، تطورت الأحداث بشكل غير مقبول جعلت البعض يجازف باتهام جزء من حركة هؤلاء الشباب بأنها أجندات خفية تهدف إلى زعزعة استقرار الوطن وتقويض وحدته وقد يكون ذلك الاتهام مبررا بعد محاولة السطو على السلاح الوظيفي لمركز الدرك بالقليعة.

في خضم ذلك، تبرز التربية والتعليم كخط دفاع أول لتحصين الناشئة والشباب ضد محاولات الاختراق والتضليل، والتعليم هو النخاع الذي ينتج المناعة الفكرية كسلاح لجيل الشباب في عصر التضليل الرقمي، وزمن انفجار المعلومات وسيولة المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت منصات "السوشيال ميديا" ساحة مفتوحة لتصريف الأفكار والخطابات المختلفة، وبذلك تعاظم دور المدرسة والجامعة إذ لم يعد مقتصراً على نقل المعرفة فحسب، بل وجب أن يتحوّل إلى مهمة بناء المناعة الفكرية لدى التلاميذ و الطلاب، كما صار إنهاء الأمية الرقمية غير كافياً، بل وجب بناء قدرات نقدية تمكن الشباب من تمييز الحق من الباطل، والخبيث من الطيب، والحقيقي من المزوّر، وهنا تصبح التربية والتعليم سلاحاً ضد "التفكير القطيعي" وخطابات الكراهية والعنف ، التي تنتشر كالنار في الهشيم.

في طليعة هذه المعركة المصيرية يقف نساء ورجال التعليم وهم جنود الخفاء في معركة بناء الوعي، حاملين مشعل العلم والأخلاق، كونهم ليسوا مجرد ناقلين للمعرفة، بل هم مهندسو العقول وحُماة الهوية، في ظل محاولات بعض الأصوات الهادفة إلى تشويه صورة الوطن وزعزعة الثقة في مؤسساته، فلطالما كان المعلم(ة) هو الحاجز الأقوى الذي يكرس في طلابه قيم الانتماء والمواطنة الحقة، والاعتزاز بالهوية الإسلامية والوطنية.

لقد كانت المؤسسة التعليمية العمومية حاضنة للعديد من الأنشطة العلمية والثقافية والفنية و الرياضية بوجود أندية تبني في وجدان التلاميذ حب الوطن و احترام القيم و كانت بموازاتها دور الشباب و دور الثقافة و الجمعيات تستقطب فئات عديدة من الشباب و تنظم مسابقات ثقافية و رياضية ورحلات استكشافية وعلمية، و مخيمات صيفية و ربيعية، ترفع من قيم المجتمع المغربي وتراثه و ثرواته و إنجازاته التاريخية...و كانت مساجد القرى و الأحياء تستكمل تلك الأدوار بدروس وعاظها الصادقة و خطباء الجمع المسددة بانتقاء خطب تناسب الظواهر و المناسبات و تستبطن المسؤولية في تقويم سلوك المجتمع شبابه وشيبه .. لكن مع الأسف الشديد تم الاستعاضة عنها بمنصات المهرجانات مثل دروس "الصلكوط طوطو" في كيفية "بريم الجوانات" والكلام الساقط وبرامج التفاهة، فصار كل ما تبنيه المدرسة طيلة السنة من معارف وقيم، يتهاوى في فصل الصيف، الذي كان جيلنا يستغله في العمل في أوراش البناء أو تعلم حرفة أو العمل في بيع الخضر والفواكه أو في الالتحاق بدور القرآن لحفظ القرآن ...تقليصا للفراغ وتدريبا على تحمل المسؤولية واستيعابا لحقيقة الواقع!! ...

ومع حجم الإحباط و استبعاد إصلاح هذا القطاع على المدى المنظور، في ظل أحزاب مترهلة و وزراء و سياسيين همهم الانتخابات، ونقابات صار معظمها ممقوتا من طرف الشغيلة حيث فقدوا الثقة التمثيلية فيها، مع كل ذلك تنقشع شموس الأمل بمغاربة مخلصين و مربين و أساتذة و إداريين متميزين، لا يزالون ينكرون المنكر و يأمرون بالمعروف و يحرصون أن لا ينهار هذا القطاع من جهة ثغورهم و كأنهم بقايا مقاومي الريف أو بوكافر زمن الاستعمارين الإسباني والفرنسي ..كما تنقشع شموس صوب الغروب من شباب نفخر بهم ، سمعنا ورأينا تحليلاتهم و دقة استيعابهم للمشهد السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي لبلادنا فهم الأمل، في حمل أمانة بناة الأمس و صانعي المجد العلمي والاستقرار والازدهار بمغربنا الحبيب.

لقد آن الأوان، أن يتكاثف الجميع لحماية الوطن من سارقي أحلامه و ناهبي ثرواته و مثيري الفتنة بين أبنائه، و تحصينه من كل اختراق يستهدف تماسكه و قيمه وانتماءه،.ولا سبيل لكل ذلك إلا بالعلم و التعليم ...بالتعليم نفهم الأهداف و المرامي و المفاهيم و المعاني، بالعلم و التعليم نميز بين المفسد و المصلح و نوقف مسلسل التلاعب بمصير هذا الوطن، بالعلم و التعليم يستقيم البناء ويكثر الإبداع و العطاء و يتبوأ المغرب مكانته الحقيقية دون أصباغ أو تجميل...وسيظل هذا الوطن بفضل الله وبكل جهاته مشتلا للرجال والنساء الأوفياء و المخلصين دوما لشعاره الخالد الله- الوطن -الملك..