كان موحى طفلا صغيرا، ذنبه الوحيد أنه ولد و نشأ في رقعة جغرافية يحلو لهم أن يسموها بالمغرب " الغير النافع"، كان نحيف الجسم، قسمات وجهه الذي لفحته الشمس، تظهره أكبر بكثير من سنه الحقيقي. يستيقظ كل صباح قبيل بزوغ الفجر معية أمه على وقع أصوات قوائم قطيع الأغنام الذي تملكه الأسرة. يفتح عينيه بصعوبة و يطرق عنهما كسل النوم، و يحملق في الجنبات الطينية للكوخ الذي يتخذونه مسكنا لعله يجد شيئا قد تغير، لا شيء تغير، روتين في روتين، كل الأيام تتشابه بالنسبة له. يظل طيلة النهار يطارد قطيع الأغنام محاولا أن يلملمه على قمم الجبال المحادية لمنجم "تيزي نمودو" و لجبل بوكافر الذي استشهد فيه أجداده.. موحى توقف عن الدراسة حتى قبل أن يبدأها. يخصص كل يوم وقتا يتأمل خلاله ركاما من الاسمنت و الأحجار هو ما تبقى من حجرة دراسية حالفه الحظ أن يلجها يوما رفقة عدد من الأطفال في مثل سنه من المناطق المجاورة ل"تيزي نمودو" و يتأسف بشدة لعدم استمراره في متابعة الدراسة و التحصيل بسبب ما يعتبره اليوم قمة "الحكرة" و ظلم الجغرافيا و السياسة و اهمال الدولة...

هاهو صديقنا موحى يتذكر بمرارة يوما من أيام ربيع سنة1987، ربيع منقوش و موشوم بذاكرته البريئة، ليس لوفرة أزهاره و وروده المزركشة و فراشاته المختلفة الألوان، بل لأنه اليوم الذي أجهضت فيه أحلامه الوردية التي بناها على أرضية رملية متحركة لم يعرف أنها ليست أساسا متينا لذلك. إنه اليوم الذي قررت فيه الشركة المستغلة للمنجم التوقف عن استغلاله بعد أن استنزفت الثروات المعدنية الباطنية للأرض التي ولد فوقها موحى و خطا عليها خطواته الأولى..، كان في ذلك الربيع الأسود تلميذا كله حماس يتابع دراسته بالمستوى الثاني ابتدائي في المدرسة التي شيدت لأبناء العمال غير بعيد عن المنجم، و كانت آنذاك فرعية مدرسية تابعة لمجموعة مدارس بوكافر باكنيون. مدرسة لم تستمر كثيرا، إذ تم سحبها و سحب تجهيزاتها مباشرة بعد أن توقفت الشركة المذكورة عن استغلال المنجم في خرق سافر للحق في التعليم ورغم كون أكثر من نصف التلاميذ من المناطق المجاورة..

يتذكر موحى كيف كان حينها واقفا فوق تلة مطلة على مكان الحجرة التي أصبحت بين عشية و ضحاها مهجورة و هو يضم إلى صدره النحيل بعض الكراسات و الدفاتر التي وزعها عليهم الأستاذ بعجالة قبل الرحيل رغم أن الموسم الدراسي لم ينته بعد. شيع الشاحنة التي شحنت فيها السبورة و الطاولات و أغراض الأستاذ بنظرات حزينة و هو يغالب دموعه التي كادت أن تنهمر بغزارة لو لم يتذكر ما يذكره به جده في مثل هذه المواقف  "الرجال لا يبكون". مسح خديه و تأمل الدخان الأسود الذي تنفثه تلك الشاحنة اللعينة و يستمع لضجيجها الذي يتخيله نحيبا و بكاء و هي تبتعد لتختفي خلف التضاريس الوعرة للمنطقة و بذلك المشهد الحزين ودع موحى أحلامه الجميلة. أسرع بخطى مسرعة إلى بناية القسم المهجورة التي أزيل بابها و نوافذها، أزال بدوره من المجلة الحائطية بعضا من رسوماته التي رسمها يوما و ضمنها بعضا من أحلامه المجهضة ليصبح رائد فضاء... مسح حينها البناية بنظراته الطفولية و قبل جدرانها و خرج... في نفس اليوم ودع أصدقاءه الواحد تلوى الآخر...

يستيقظ موحى من ذكرياته المرة على وقع صوت جده الذي يحثه على رعاية القطيع و عدم تركه يتجه نحوى الحفر و الآبار المخيفة التي خلفتها سنوات استغلال المنجم، و يحثه بإلحاح على عدم ترك القطيع يرتوي من كل العيون القريبة من ركام النفايات المعدنية التي جمعتها الشركة بمحاذاة الأرض الفلاحية الوحيدة التي تملكها العائلة.. يسرع موحى لاعنا حظه و الشركة التي لم تترك لهم إلا تلك السموم التي جعلت ماء بئرهم الوحيد غير صالحة و أرضهم لا تنتج شيئا وزرعها يصفر و يموت بمجرد خروجه من الأرض..

الطريق الترابية التي تربطهم بمركز الجماعة لم تعد صالحة و لم تصمد كثيرا أمام الأمطار مع توالي السنوات و أصبحت المنطقة معزولة تماما لأنها لم تعد صالحة بالنسبة لهم. فأصبح الجد رغم تقدمه في السن يتحمل عناء كبيرا كل أسبوع أو أسبوعين ليقود حمار الأسرة الضامر إلى السوق الأسبوعي لمركز اكنيون ليشتري قنينة زيت و كيس دقيق من فئة خمسون كيلوغراما، كيس في أحسن الأحوال لا يصمد وزنه بل يتقهقر لتنسل منه كمية عبر الطريق، و قد تباغث الأمطار الجد و الحمار في الطريق و يضيع كل شيء...

موحى اسم مستعار لقصة حقيقية عاشها الكثير من تلاميذ مدرسة تيزي نمودو  أواخر التمانينات.