يبدو أن الزمن استطاع أن «يعالج» ملف فضيحة «بريمات» المزوار وبنسودة، بعدما التحق المزوار بحافلة الحكومة وتسلم حقيبته، ولم يعد ذلك الزعيم «اللي ما فيدوش» كما كان يصفه رئيس الحكومة.
فقد دفع الموظف الذي كشف الفضيحة الثمن من مساره الوظيفي، وبدأت وزارة الخارجية على عهد وزيرها الجديد صفحة جديدة من الجريدة التي فجرت الفضيحة، بحيث أصبحت إعلانات الوزارة تجد مكانا فسيحا على صفحاتها.
والواقع أن هناك فضيحة أخرى لم ينتبه لها أحد، تجمع هذه المرة بين ياسمينة بادو وزيرة الصحة السابقة والمزوار، عاشق «التبغ»، عندما كان وزيرا للمالية على عهد حكومة عباس الفاسي. وقصة التبغ هذه سنعود لها بالتفصيل في ما بعد.
ففي صباح يوم مشمس وافق الثاني من ماي من سنة 2008، انعقد شمل المجلس البلدي للجماعة الحضرية مشور الستينية التابعة لولاية جهة مكناس تافيلالت، بمقر البلدية على الساعة العاشرة والنصف صباحا.
فقد كان باشا جماعة مشور الستينية يترأس الدورة الاستثنائية التي عقدت على عجل بحضور جميع الأعضاء الثمانية للمجلس، إضافة إلى رئيس دائرة الأملاك المخزنية والجابي البلدي ورئيس مصلحة التصميم والمنازعات ورئيس مصلحة شؤون المجلس والمتصرف المساعد.
وبعد تأكد السيد الباشا من أن النصاب القانوني الضروري للتداول في النقط المدرجة في جدول الأعمال متوفر، أعلن السيد الباشا باسم الله مجراها ومرساها عن افتتاح أشغال الدورة. وطبعا لم يفت سعادة الباشا أن يرحب بالحاضرين، مع تخصيص رئيس دائرة الأملاك المخزنية بالشكر على تجشمه عناء الحضور.
ومن يراجع محضر المداولات ويرى الحضور الكامل لأعضاء المجلس ورؤساء المصالح، يعتقد أن جدول الأعمال كانت فيه نقط مصيرية وحاسمة بالنسبة لساكنة الجماعة. إلا أن كل هذه الجلبة لم تكن سوى بسبب نقطة واحدة وعلى درجة من الأهمية بالنسبة لمصالح عائلة ذات نفوذ في جدول الأعمال ذاك الصباح.
فقد كان سعادة الوالي على جهة مكناس تافيلالت آنذاك، السيد حسن أوريد، مصرا على عقد الاجتماع في أسرع وقت مع احترام كل التفاصيل القانونية. خصوصا وأن الأمر كان يتعلق بعقار في ملكية عائلة ياسمينة بادو، وزيرة الصحة في حكومة عباس الفاسي آنذاك.
وهو العقار الذي كانت العائلة قد اكترته من أجل الاستغلال لمدة عشرين سنة، والذي يحمل الرسم العقاري رقم 992 كلم بمنطقة صهريج السواني بمكناس، والذي انتهى في اسم عم الوزيرة تاج الدين بادو. وهو العقار نفسه الذي يقام فوقه المعرض السنوي للفلاحة بمكناس والذي تبلغ مساحته ما يزيد عن ستة هكتارات.
المهم أن الجماعة الحضرية كانت قد باشرت مسطرة نزع ملكية هذه القطعة الأرضية المملوكة لورثة عائلة بادو، وتقرر سنة 2007 بواسطة مرسوم يقول إن المنفعة العامة تقتضي نزع ملكية هذه الأرض من ورثتها من أجل تحويلها إلى مساحات خضراء وموقف للسيارات وإحداث فضاء للأنشطة الرياضية بمنطقة صهريج السواني.
وليس هذا فحسب، بل صدر أمر قضائي عن المحكمة الإدارية بمكناس يعطي الحق للجماعة الحضرية بحيازة العقار لأجل المنفعة العامة.
ولأن أصحاب الأرض ليسوا نكرات ولم يقطر بهم السقف، بل عائلة مكناسية عريقة ولديهم بنتهم في الحكومة، فقد دخل على الخط وزير المالية صلاح الدين مزوار لتسهيل الإجراءات المالية، بالإضافة إلى حسن أوريد، والي جهة مكناس تافيلالت، وممثل وزارة الداخلية في المنطقة، لكي يتوقف كل شيء.
وهكذا صدرت التعليمات لكي يعقد المجلس البلدي للجماعة الحضرية مشور الستينية، جلسة استثنائية بنقطة واحدة في جدول الأعمال، وهي التراجع عن نزع ملكية أرض ورثة بادو والقيام بإجراءات التشطيب على التقييدات بالرسم العقاري المذكور، وكذا سحب الدعوى القضائية الجارية أمام المحكمة المتعلقة بنقل الملكية.
وطبعا لم تتطلب دراسة هذا الطلب سوى بضع دقائق، تبين بعدها بالواضح لسعادة الباشا والأعضاء المحترمين ورؤساء المصالح، عدم وجود أي مانع قانوني يحول دون تراجع الجماعة الحضرية عن قرار نزع ملكية القطعة الأرضية. خصوصا وأن مكتب المجلس البلدي بكل أعضائه، حسب محضر الدورة، قد سبق له أن درس هذا الطلب بشكل مستفيض خلال الاجتماع الإعدادي للدورة، وأوصى، وهذا هو مربط الفرس، بالمصادقة على قرار التراجع عن نزع الملكية. يعني «الناس موصين عليهم».
وهكذا تم الاتفاق بالإجماع على التراجع عن نزع ملكية الأرض التي رأت الجماعة الحضرية سابقا أن المصلحة العامة كانت تقتضي نزعها. وحتى يتم تعويم هذه النقطة في جدول الأعمال أضيفت إليها نقطة أخرى تتعلق بالموافقة على كناش التحملات المتعلق بالاحتلال المؤقت للأماكن المقررة بساحة للاعودة وصهريج السواني وقبة السفراء. هكذا لن يقول أحد إن المجلس البلدي ورؤساء المصالح اجتمعوا خصيصا لاتخاذ قرار التراجع عن نزع ملكية أرض ورثة بادو بالإجماع.
بعد توصل ورثة بادو بقرار تراجع الجماعة عن نزع ملكية أرضهم، سيأتي الآن الدور على الدولة لكي تشتري هذا العقار. وهنا يجب أن تربطوا أحزمتكم جيدا لأن سعر البيع يمكن أن يصيبكم بالدوار.
وحسب عقد الشراء المحرر في مكناس عن مديرية الأملاك المخزنية، بتاريخ 24 أبريل 2008، والموقع من جهة بين ورثة بادو التسعة، بالإضافة إلى سيدة لا علاقة لها بعائلة بادو ومع ذلك توجد ضمن الورثة، من عائلة صلاح الدين المزوار اسمها لطيفة المزوار، ومن جهة أخرى بين الملك الخاص للدولة في شخص النائب عنه، أي مدير الأملاك المخزنية بالرباط، حصل الاتفاق وتقرر ما يلي:
يبيع السيدات والسادة بمقتضى هذا العقد الستة هكتارات وثلاثين آرا بثمن قدره ألف ومائتا درهم للمتر المربع، أي ما مجموعه ستة وسبعون مليونا وثلاثمائة وعشرون ألف درهم.
وبالنسبة للذين لازالوا يحسبون بالريال فالمبلغ الذي تحصل عليه ورثة بادو، بالإضافة إلى السيد والسيدة اللذين يوجد اسماهما في عقد البيع، هو سبعة مليارات و632 مليون سنتيم، لا غير.
هذه «البيعة الشرية» كانت ستكون عادية لولا أن مواطنين عاديين ليست لديهم أخواتهم أو أبناؤهم في الحكومة، انتزعت منهم الدولة ملكيتهم للمصلحة العامة مقابل 50 درهما للمتر المربع. وأكبر مثال على ذلك الهكتاران ونصف اللذان يوجدان في مكان استراتيجي بمكناس بجانب باب منصور وفي قلب شارع محمد السادس.
إن الذين يتساءلون عن أصول ثروة ياسمينة بادو، التي اشترت هي وزوجها علي الفاسي الفهري شقتين فاخرتين في قلب باريس بملياري سنتيم، سيجدون ربما في هذه «الصفقة» ما يعفيهم من البحث عن «صفقات» أخرى ربما قد تكون مصدر ثراء هذه العائلة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الذي حدث حتى يقرر المجلس البلدي للجماعة الحضرية عقد دورة استثنائية من أجل اتخاذ قرار التراجع عن نزع ملكية أرض ورثة بادو، بعدما كانت الجماعة قد قررت في وقت سابق أن المصلحة العامة تقتضي ذلك؟
وما هو مصير المساحات الخضراء وفضاءات الأنشطة الرياضية بمنطقة صهريج السواني التي وعدت الجماعة بأنها ستقوم بإنشائها فوق تلك الأرض؟
ثم هل المصلحة العامة تقتضي أن تؤدي الدولة على عهد صلاح الدين المزوار، وزير المالية، من خزينتها 76.320.000 درهم لورثة بادو والشخص من عائلة وزير المالية؟
والسؤال الكبير والأهم، هو ما هو دور سعادة الوالي السابق حسن أوريد، وبوصفه وصيا على أملاك الدولة، في هذه «الصفقة» التي بموجبها وافقت الخزينة بالإذن للدولة باقتناء العقار؟
ألم يكن حريا بسعادة الوالي، وهو المؤتمن على ممتلكات الدولة، أن يراجع، بحكم سلطة الوصاية التي يتمتع بها، سعر البيع ويحدده في مستواه المعقول الذي يتناسب وأهمية المنطقة، أو أن يعترض على القرار برمته وينتصر للمصلحة العامة على حساب المصلحة الخاصة لورثة عائلتي الوزيرين؟
هو الذي يقضي كل وقته هذه الأيام في الخطابة فوق منصات الجامعات والمعاهد حول الحكامة والمصلحة العامة، وغيرهما من المفاهيم التي استعصى عليه تطبيقها على أرض الواقع عندما كان يمتلك السلطة.
أم أن المسكين تعرض لضغط الوزيرين اللذين استفادا مباشرة أو بشكل غير مباشر من هذه «الصفقة» المجزية؟
في كل الأحوال ستبقى هذه الأسئلة معلقة وشاهدة على حادث لم يسبق له مثيل. فأن يصدر قرار بنزع الملكية لفائدة المصلحة العامة فتعقد الجماعة دورة استثنائية من أجل إلغائه، وفوق هذا تشتري الدولة الهكتارات الستة بألف ومائتي درهم للمتر المربع، فلا يسع المرء سوى أن يندهش من هذا «الزهر» الذي «يهرس الحجر» والذي لدى ورثة بادو والمزوار.