الشمس ترسل أشعتها الدافئة ، وتلقيها على هذه الحقول الشاسعة، لتعيد لها الحياة، وتؤكد لها أن العهد لن ينقطع، الأرض تخلصت مما علق بها من جليد، بعد ليلة قارسة، و أشجارالزيتون تزينت، بعدما امتزجت خضرتها بنور الشمس، واستعادت بهاءها وجمالها، لاستقبال عاشقيها في صبح جديد ولقاء جديد.

الابتسامة تسكن قلوب هؤلاء البسطاء الطيبين، قبل أن تنطبع على محياهم، وكيف لهم ألا يسعدوا، وهم يحيون إلى جانب الشجرة، التي وهبتهم الحياة، واستمدوا قوة أرواحهم و أجسامهم من قوتها، ونضالها أمام السنين العجاف؟ ينوحون عندما يلحق بها مكروه، ولا يستطيعون اجتتاتها من رحم الأرض إلا لتخليصها من المعاناة. ما أن تتفتق أولى الزهرات، حتى تزغرد الأمهات، ويرقص الآباء والأبناء، فرحا وابتهاجا، ترفع الأيادي إلى السماء، وتتضرع القلوب خاشعة، لحماية أجنة الشجرة من كل الشرور، إلى أن ترى النور.كيف لا يسعدون ولقاء الروح بالروح، سيتجسد في الصعود، إلى قلب المعشوقة الأبدية ومعانقتها؟ كيف لا يسعدون، والدم الذي يسري في عروقهم، يحمل حب الزيتون وعشق الزيتون؟

وحده هاشم، لم يكن يهمه من أمر الشجرة شيء، سوى ما سيجنيه من مال، بعد تراكم ديون اقترضها من التجار اليهود، أو تجار فاس، وكيف للمسكين أن يعشق، وقد ترك مهمة العشق، لعمال بسطاء؛ امتنع على الدوام عن دفع أجورهم، مدعيا أنه يطعمهم، ويحميهم من قسوة الزمان؟ كيف له أن يعشق، وهو مستعد أن يمزق أحشاء الشجرة، إن هي لم تعط محصولا، أكثر مما هو مرغوب فيه؟ لكن هيهات، هيهات، أن يهب الزيتون شيئا لغير واهب، هيهات، هيهات، أن يهب الزيتون شيئا لمن فقد روحه منذ زمان !

جرى في الأرض جري الوحوش، وعاد إلى عماله في الحقل، ليراقبهم، كان يلهث مثل حيوان طارد فريسة، ولم يغنم بها، يضع يديه على ركبتيه، حانيا هامته واللعاب يسيل من فمه.

* هاته الجراء يا بنت محمد، ستجعلني في عداد الحمقى والمجانين؛ ما طردت أحدهم من هذا الحقل، إلا و أجد الآخر في الحقل الثاني، أبناء كلاب، ينتشرون مثل الجراد.

نطق أحد العمال من أعلى الشجرة، وسأله: وهل أمسكت بأحدهم يا مولاي؟.

* كيف لي بذلك،وهم يتقافزون مثل الغزلان، لا أدري كيف لهم بهذه القُوَّةِ، وقُوتُهُم الدائم من خبز يابس، وَشايٍ،وَجزَرٍ؟

* إنها بركة الرحمان يا مولاي، يهبها لمن يشاء. يهبها للضعفاء المساكين.

تغامز العُمَّال، ونبس أحدهم: بطة بيضاء، بالكاد تبرح بِركَةَ الماء والظِّل، تريد أن تطارد غزالا أسمر، رضع من ثدي الصحراء، والله يا سيدي لو بقيت العمر كله تجري، ما ستقبض إلا على ريح وغبار يخنق أنفاسك ويعمي عينيك.

تضاحكوا، فشعر بأن الإهانة قد لحقته، وقرر أن يرد، آمرا إياهم بصوت مرتفع، أن يشتغلوا في صمت، فالأرض تشهد على تماطلهم، أو هكذا توهم.

تمادى.وطلب منهم أن يفسحوا له المجال في الأعلى، ليتولى اسقاط ثمرات الأغصان الوسطى، حمل العصا الاقصر، و أمر بنت محمد أن تناوله العصا الأطول، ما أن يبلغ اول غصن؛ عقد العزم، وأراد أن يتسلق الشجرة. كانت شامخة، مكابرة، عظيمة عظم الأجداد الذين غرسوها، تبعث على الإجلال والتقدير، كانت ذاتَ سَاقٍ سَامِقٍ عَرِيضٍ تتفرع منه أغصان كثيرة، جاهد لتسلقه، وكلما بلغ النصف، خارت قواه، وهوى إلى الأسفل، انسلخت قدماه، وتمزقت ثيابه، اشتد غضبه، وضرب الساق بالعصا متوعدا الشجرة بالقطع في العام القادم، لأنها شاخت، ولم تعد تثمر، وتظلل مساحة كبيرة من الحقل، وقبل أن يقرر الاستسلام، طلب منه أحد العمَّال، ألا يعيد الكرة، فالشجرة تتمنع، ومتى تمنعت شجرة الزيتون، فذاك ندير شؤم، ومن الأجدى عدم المجازفة.

أهانته الشجرة، ويا لها من إهانة، فقد فرضت عليه الركون إلى جانب بنت محمد، ومن العيب والعار في الواحة بكاملها، أن يركن الرجل إلى جانب امرأة، ولا يستطيع تسلق الزيتونة، التي تربى وترعرع إلى جانبها، من العيب والعار

ان ترفضه، بل ترفض روحه، والأطفال الصغار، الذين بلغوا سن الخامسة من العمر، يتسلقون أغراسها بكل خفة، ويتسلون بأغصانها، ويكبر معهم هذا الحب إلى الأبد.

تعالت صيحات الصلاة والسلام على الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، والحَبُّ يتساقط بغزارة البَرَدِ في يوم ممطر، ويوجع رأسه الثقيلة، مما اضهطر للاحتماء، والذهاب بعيدا، حاولت بنت محمد أن تخفف من قلقه:

* لا عليك يا سيدي .. ما هم إلا أطفال صغار، الفرحة تغمر قلوبهم، موسم جني الزيتون، موسم خير وبركة، فيه يستعين سكان القرية على نوائب الدهر، أفرحهم يا سيدي، و أفرح نفسك وسيدعون لك بالرحمة والمغفرة.

* • أتسخرين مني يا سليلة السوء؛ وهل أنا المسؤول عن فقرهم، تتمنين موتي يا سليطة اللسان؟

* حاشا لله يا سيدي..أناأشفق عليك.

* اشفقي على نفسك..لكن معك حق أيتها الفحمة السوداء، لا شيء بين يديك تخافين عليه.

* سيدي من امتلكته الدنيا، اكتوى بلهيب النار. أراد أن يقاطعهان لكنها تعمدت الاسترسال في الكلام. نعلم يا مولاي أنك تعبت في جمع الثروة، لشراء هذه الحقول؛ سافرت واغتربت، وعانيت ويلات الجفاف وحفرت آبارا كثيرة لسقي أشجار الزيتون.لم يرد. انحبس الكلام في اللسان، والسيف انغرز في القلب إلى أبعد حد، ولم يبقَ إلا النزيف.هي تعلم ... تعلم ! حدَجها بنظرات حاقدة، تمنى لو كان يملك مسدسا ليفرِّغ الرصاص في رأسها ويسكتها إلى الأبد.

ابتسمت في وجهه، وناولته كوب ماء يروي به عطشه، و يخمد غضبه؛ شرب الماء، وغط في نوم عميق، استراح العمال من تشويشه ، واستمروا في عملهم بكل جد ونشاط، الضحكات تتعالى في الأفق البعيد، والمزحة تتلوها المزحة، والقلوب تسافر بعيدا، تاركة الدنيا وهمومها وأحزانها في الخلف.

الشمس تهب للغروب، واعدة بابتسامتها بإشراق جديد.جموع المزارعين تجمع المحاصيل، بعد تخليصها من شوائب الأوراق والعيدان اليابسة، وتستعد لتستودعها في المعاصر بعد الدخول؛ توجه نحوه أحد العمال ليوقظه، حركه مرات عديدة، نادى باسمه بأعلى صوت، لطمه على خده لطما خفيفا، لعله يستفيق، لكن هيهات، كان جثة هامدة. مات هاشم ا. مات سليل الباطل، وترك كل شيء في مهب الريح، تعبث به الأيادي الآثمة، حزنوا كثيرا لموته، ودعوا له بالرحمة والمغفرة. الكل باطل،خواء، ولا شيء بين أيدينا. هكذا كان يردد حكيم القرية، بابا الطيّْب رحمه الله.

غطوه بقماش لم يستعمل فراشا لتساقط الزيتون، و أرسلوا طفلا صغيرا ينقل الخبر لذويه وأهل القرية، لكي يعدوا له قبره، قبل آوان صلاة المغرب، حملوا جثته على العربة، عوضا عن المحصول، وأمروا البَغْلَ بالحراك والهمة في المشي.

دخل العمال، وجلست بنت محمد إلى جانب ركام الزيتون، ذرفت دمعات حرى، ونظرت نظرات عميقة إلى الشجرة الشامخة، نظرات أخذتها إلى دنيا غير هذه الدنيا، وزمان غير هذا الزمان، لامست حبات الزيتون، وعانقتها بحرارة، كما تعانق طفلها الصغير، استنشقت عطرها، وأعادتها إلى مكانها، وضعت يدها على إزارها الأبيض، وعادت إلى منزلها، تحمل في قلبها كل شيء ،وتملك كل شيء،عادت تحمل روح الزيتون، وعبق الزيتون.