في جميع القطاعات وبدون استثناء، تنبري فئة عريضة منتمية إلى كل قطاع على حدة للدفاع المستميت عن نفسها وتزكيتها أو تنزيهها عن أي زلة أو خطأ أو حتى جريمة يمكن أن يقع فيها أحد المنتمين إلى "جماعته" التي يراها مقدسة ، في عملية أقرب ما تكون إلى تقديس الذات وتمجيد المهنة .... تنفي أي مسؤولية لها عن أي خلل قد يتعرض له مجال اشتغالهم ، تحاول على طول الخط إلصاق التهمة/المسؤولية بأطراف أخرى ، وقد ترى في تحميلها المسؤولية مؤامرة تحاك ضدها للنيل منها وتبخيسها ، تحاول دوما لعب دور الضحية التي يتكالب عليها الجميع ، تنخرط في عملية تباكي شبه جماعي لاستدرار العطف والدعوة إلى التضامن ...لست أعمم هنا ، ولكن ، في كل قطاع تسكن فئة بارعة في إضفاء القدسية على نفسها و تَحْمِلُ هذه الذهنية المفصولة عن المنطق.

_في قطاع الصحة وعند كل فضيحة تجول بين ردهات المستشفيات أو أمام أبوابها يصيح الأطباء والممرضون : نحن ملائكة الرحمة وبدون خدماتنا ستنتشر الأمراض وسيموت الجميع ولا يمكن لمن ينقذ حياة الناس ويتحمل ظروف عمل مزرية أن يرتكب مثل هذه الأفعال الشنيعة ...هناك مؤامرة والوزارة والنقابة مسؤولة عما يحصل ..

_في قطاع التعليم كذلك ، ما أن يتورط أحدهم من رجال ونساء التعليم في أي سلوك غير تربوي ويهدد مستقبل الناشئة حتى نسمع الغالبية تصرخ : كاد المعلم أن يكون رسولا ، لا تقللوا من احترامه ولا تنتقصوا من هيبته ، نحن أشرف خلق الله ، نحن من نعلم الأجيال وننير العقول ونشتغل في أسوء الظروف والدولة ماضية في سياستها المجحفة في حقنا ، لا تجعلوا منا ذاك الحائط القصير الذي تقفزون عليه كلما تعلق الأمر بخلل في منظومة التعليم بالمغرب (وكأنهم يشتغلون ضمن منظومة التعليم في كوكب زمردة) ...المسؤولية كاملة على كل ما يحصل تتحملها الدولة والنقابات والأسرة والتلاميذ وووو ...

_ في قطاع الإعلام والصحافة : الصحفي شخص نبيل ، وهب راحته وحياته كلها في سبيل نقل المعلومة وتنوير الشعب ...هو سلطة رابعة في مواجهة سلطة الدولة... هو المثقف والكاتب والمدافع عن حق الشعب في الديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وهو ناقل لصوت الشعب ...كيف تجعلون منه شيطانا وهو الذي يشتغل في ظروف صعبة وقد تتعرض حياته للخطر ...هناك مؤامرة تجاه صوت الشعب بطلها المخزن الذي يريد إخراس صوت الصحفي

_ في قطاع العدل : القاضي هو ضامن الحق في العدالة وكذلك المحامي ، ما يقال هو إشاعة مغرضة تستهدف هذه الفئة وتقويض صرح العدالة في المغرب وهز ثقة المواطن في عدالة بلده ...

_ الأحزاب السياسية والسياسيون بكل تلاوينهم ودرجاتهم : نحن من يسهر على تدبير شؤون هذا البلد وعلى ضمان سلامة أركان الدولة من الانهيار ، نحن من يضمن عملية التداول الفعلي على السلطة ...نحن من يضمن استقرار البلد ...ما يشاع من فضائح عن فلان أو علان ليست سوى مؤامرة من البوليزاريو وحليفتها الجزائر..

_رجال الأعمال والمال أيضا : نحن من ينعش اقتصاد البلد والساهرون على الاستثمار وإنعاش الشغل ، ما يقال هو إشاعة تستهدف اقتصاد البلد ...ما تقيسش فلوسي وأملاكي

_المؤسسة الملكية : الملك زوين ، اللي دايرين بيه هما لي خايبين ، الملك هو ضامن وحدة الأمة واستقرارها وهو خير راعي لرعيته ، يهش بعصاه على الذئاب التي تقترب من رعيته ... كل ما يقال في الصحف يستهدف النيل من وحدة المغرب واستقراره وأمنه المحسود عليه ..

يمكننا إسقاط هذه العقلية الشاذة عن المنطق على أي قطاع آخر لم أذكره أعلاه ، نفس الذهنية ، تختلف هذه الفئات في التعابير المدرجة في خطاب التباكي واستنكار المساس بها فقط .

أكرر ، لست أعمم هنا ، هناك عقلاء كثيرون ، مستعدون دوما للاعتراف بخطئهم وتحمل تبعاته ويتقبلون برحابة صدر أخطاء زملائهم في المهنة ، يرون في الخطأ حالة إنسانية ولا يمكن لاتهام زميل أن يمس كرامتهم أو قدسية مهنتهم ...لكن ، للأسف ، هم قلة ولا نكاد نسمع لهم صوتا في خضم الضجيج الذي يحدثه المتباكون

علاقتنا يا سادة بالنقد الذاتي والاعتراف بالخطأ هي علاقة آثمة جدا ، نحن شعب نعشق تمجيد الذات وتنزيهها ، شعب يريحه لعب دور الضحية والمفعول به وفيه بدل تحمله المسؤولية السياسية والأخلاقية والتربوية أمام الجميع أو حتى أمام نفسه ..شعب استسهل نظرية المؤامرة حتى صار يقحمها عنوة في كل ما يتورط فيه أو يورطه

أن نسلك طريق النقد الذاتي ونعتنق ثقافة الاعتراف بالخطأ فذلك يعني فيما يعنيه أننا قطعنا أهم وأخطر جسر نحو إصلاح أعطابنا ، صحيح أنه طريق شائك وقد يوخز الكرامة والكبرياء لكنه ضروري جدا ولا مناص منه ، والمداومة على ممارسة النقد الذاتي والوقوف أمام الذات والإشارة إليها بأصبع الاتهام أشبه ما تكون بكشف ورق اللعب على الطاولة أمام جميع اللاعبين دون غش أو تدليس ، الاعتراف بالخطأ هو اعتراف الإنسان بأنه ليس مجرد شخص مفعول به أو فيه ، اعتراف بأنه فاعل وشريك حقيقي في صناعة الحاضر والمستقبل ، أما الانخراط في ملحمة التباكي على قدسية مُسَّتْ وأُهينَتْ فذاك لن يجلب لنا غير المهانة والإقصاء واعتبارنا شعبا قاصرا ومن حق "الأسياد" اقتياده أنى ومتى شاء

سؤال على هامش هذا الاعتراف بغياب ثقافة النقد عند الشعب المغربي : إذا كنا نحن الشعب ، لا نتقبل الاعتراف بالخطأ وتحمل مسؤوليتنا ، كيف يمكننا أن ننتظر من الملك وهو رأس هرم السلطة بالمغرب والذي صبغ سلطته المطلقة بقدسية دينية قد يُكَفَّرُ على أساسها كل من يجرؤ على مساءلته أن يعترف بأخطائه ويتحمل مسؤولياته الأخلاقية والتاريخية أمام الشعب ؟؟