لقد فرض علي قاموس العِطارة نفسه – وأنا أتتبع، في الصحافة، الفضائح  التي تنفجر والمهازل التي تحدث في هذا القطاع أو ذاك، أبطالها وزراء، يتقدمهم رئيسهم السيد “عبد الإله بنكيران”- فوجدت نفسي مضطرا لاستعارة كلمة “التوابل” من هذا القاموس من أجل الحديث عن “مطبخ” الحكومة، الذي تنبعث منه روائح الطبخات الفاسدة. وما اضطرني لهذه الاستعارة إلا إصرار بعض الأقلام على إخفاء آثار هذا الفساد؛ وذلك بالاعتماد على تزييف الحقائق وتغليط القراء.

من المعلوم أن التوابل لا تستعمل فقط للحصول على مذاق لذيذ ونكهة طيبة وممتعة (في الأطعمة والمشروبات)؛ بل تستعمل، أيضا، لنكهتها، في الغش والتدليس؛ إذ يلجأ إليها بعض أصحاب المحلات (التي تقدم الوجبات الخفيفة وغير الخفيفة) لإخفاء فساد الأطعمة التي يقدمونها.

وإذا كان فساد الأطعمة قد يحدث تسمما قويا أو خفيفا حسب درجة الفساد في البضاعة وحسب درجة المناعة في جسم المستهلك، فإن فساد السياسية والتدبير يحدث أضرارا بليغة ليس في الفرد فقط، بل في المجتمع كله؛ ذلك أن التسمم المعنوي أخطر بكثير من التسمم المادي. فإذا كان خطر هذا الأخير قد يصل إلى وفاة بعض أفراد المجتمع (وهو أمر مؤسف ومحزن ومقلق، بالطبع)، فإن التسمم المعنوي قد يهدم مقومات مجتمع بأكمله.

وحتى نبقى في مجال الاستعارة، نشير إلى أن “توابل” السياسة، منها ما يستعمل لتجويد “الطبخة” وتحسينها ومنها ما يستعمل لإخفاء العيوب وستر النواقص. فإذا نظرنا إلى ما يقدمه لنا السيد “عبد الإله بنكيران” من “أطباق” منذ أن تكلف، دستوريا، بـ”مطبخ” الحكومة، يمكن أن نجزم بأن أغلب “الوجبات” التي قدمها للشعب المغربي هي “وجبات” مغشوشة وفاسدة؛ لكنه يصر على أنها أجود ما يمكن تقديمه وأحسن مما قدمه غيره.

إنه يتحدث كثيرا عن الإصلاح؛ لكنه، في غالب الأحيان، هو إصلاح بطعم الإفساد (ولن أعود إلى ما كتبته حول هذا الموضوع). لقد أبانت الوقائع والأحداث أنه “طباخ” فاشل. فحتى البهارات (التوابل) التي يعتمد عليها (الخطاب) لإخفاء فشله وفساد “وجباته”، لا يحسن استعمالها؛ إذ كثيرا ما يتجاوز الكمية المطلوبة(la dose) ، فتأتي الطبخة بطعم غير مستساغ. ولنا في تدخلاته بالبرلمان وما يرافقها من لغط ولهط بسبب عدم احترامه للمقام خير دليل على ما نقول.

كثيرا ما يستعين رئيس الحكومة بخدمات “العَطَّارة” (ونقصد بهم بعض الأصوات التي تُغرِّد بالجرائد الورقية والمواقع الإليكترونية وببعض الإذاعات الخاصة؛ بالإضافة إلى الانكشارية الإليكترونية التي يوظفها الحزب الأغلبي) لرش بهاراتهم على “وجباته” الفاسدة في محاولة لإخفاء عيوبها، ولو، على الأقل، بجعل هذه “الوجبات” في نفس مستوى ما يقدمه الغير. ويتضح هذا جليا (من خلال ما يُكتب) في الإصرار على المساواة بين الضحية والجلاد أو بين “الظالم والمظلوم”، وكأن لا قيمة لمقولة “البادئ أظلم”. وهكذا، تنبري بعض الأصوات- التي تتدثر بمعطف “الخبرة” الأكاديمية والإعلامية- للهجوم على الأحزاب السياسية ونخبها وتتهم خطابها بالرداءة، دون تمييز حتى يتم الخلط بين من يسيء إلى مؤسسات الدولة وبين من يدافع عن حرمتها. وهذا، لعمري أكبر عملية تضليل، يساهم فيها من يفترض فيهم تنوير المواطن ومساعدته على التمييز بين الغث والسمين. فما كتب عن المعارضة التي اتهمها “بنكيران” بالسفاهة، يكاد، ليس فقط أن يساوي بين المتهَم والمتهِم، بل أن يجعل هذه المعارضة مسؤولة عن سفاهة “بنكيران” وتدني خطابه.

وهنك صنف من “العَطَّارة”، إما لحسابات سياسية أو لرغبة ذاتية، تجدهم يقدمون خدماتهم التضليلية حتى دون أن تُطلب منهم؛ وغالبا ما يخطئ هؤلاء، بوعي أو بدونه، خصمهم الحقيقي، فتراهم ينساقون وراء رغبة دفينة في الانتقام من “الخصم” المُتوَهم، عملا بمقولة “عدو عدوي، صديقي!”. وقد اخترت أن أهتم، في هذه السطور، بـ”عطار” من نوع خاص جدا. لقد اخترته لوضعه الاعتباري: فهو قائد ومنظر سياسي؛ وهو مثقف وباحث؛ وهو أستاذ جامعي وصاحب قلم ورأي…  الشيء الذي يعطي “لتوابله” نكهة خاصة ويجعل منه “عطارا” مُمَيَّزا.

لا أعتقد أن القارئ محتاج إلى أن أقدم له اسم هذا “العطار” الخاص. فقد ورد في العنوان اسم  الباحث في العلوم السياسية، الأستاذ “محمد الساسي”. وسوف أكتفي، في هذه السطور، ببعض ما اقتطفه (أو اقتنصه، لا فرق) الموقع الإليكتروني الرسمي لحزب العدالة والتنمية من المقال الأسبوعي للقيادي اليساري “محمد الساسي” في جريدة “المساء ليوم الخميس 23 أبريل، الذي “حلل” فيه خطابات “بنكيران” ليكشف لنا، مشكورا،  أسرار قوتها، حسب رأيه.

ويالا المفارقة !! ففي الوقت الذي تتناسل فيه فضائح حكومة بنكيران (بحيث ما أن تبدأ فضيحة أو مهزلة ما في التواري حتى تنفجر أخرى؛ فمن الشكلاطة و”الكراطة” إلى سرير الوزير وفضائح بالجملة في مجال التسيير والتدبير والتبذير…: توظيفات غير مشروعة؛ صفقات عمومية مشبوهة؛ أموال عامة مهدورة… )، يقدم لنا “الساسي” أحد أسرار قوة خطابات رئيس الحكومة المتمثل في “عدم تورطه في فضيحة كبرى تماثل الفضائح التي تورط فيها المسؤولون الحكوميون في المراحل السابقة”، مضيفا أن “بنكيران” “يؤكد صباح مساء، التزامه بعدم التستر على فساد أي من وزراء الحكومة التي يرأسها”.

فكيف، والحالة هذه، ألا يحتفل الموقع الرسمي “للبيجيدي”بهذه “البهارات” التي تريد إخفاء الحقيقة؟ فالتزام “بنكيران” بعدم التستر على فساد أي من وزراء الحكومة التي يرأسها، يكذبه الواقع. فلو لم يتدخل الملك شخصيا، بعد فضيحة “السطل والكراطة”، لكان “محمد أوزين”، وزير الشبيبة والرياضة المُقال، لا يزال في منصبه؛ ناهيك عن الفضائح والمهازل (السياسية والأخلاقية والمالية والسلوكية والإدارية والتدبيرية والتبذيرية… وغيرها التي تنفجر من حين لآخر) التي تنشرها الصحافة (ومن هذه الفضائح ما يسيء إلى سمعة البلاد في الخارج) بالحجج والمستندات عن وزراء من حزب “بنكيران” نفسه (“الشوباني”، “الخلفي”، “الرباح”، “العمراني”…). فهل “الساسي” خارج التغطية أم أن له في ذلك مآرب شخصية؟

يتحدث “الساسي” عن تورط المسؤولين الحكوميين في المراحل السابقة (كذا) في فضائح كبرى- هكذا على الإطلاق- دون إعطاء أي مثال ولا تحديد أية مرحلة؛ بالمقابل، ينزه “بنكيران” عن التورط في فضيحة من هذا العيار.

يمكن أن نوافق أستاذ العلوم السياسية على هذا؛ لكن، هل لا يستحضر “الساسي” المثل الفرنسي الشهير “من يسرق بيضة، قد يسرق عجلا”؟ ألا ينطبق هذا على كل من يقبل على نفسه الاستفادة من المال العام (أو أي نوع من أنواع الريع) دون وجه حق؟ ألا يعلم “الساسي” أن “بنكيران” نفسه قد تلقى أموالا عمومية لا حق له فيها؟ ثم أليس العفو عن المفسدين فضيحة كبرى، في حد ذاته، بعد أن وعد الشعب المغربي وخدعه بشعار محاربة الفساد؟ أليس هذا مشاركة في الفساد وتشجيعا له؟ أليس في هذا سرقة لأحلام الفقراء؟…أليس هذا تنكرا للمرجعية الدينية التي يستغلها حزب العدالة والتنمية انتخابيا…؟ أليس هذا نفاقا، وبالتالي، إثما مبينا…؟ أليس…؟… أليس…؟

وفيما يشبه حكم الأستاذ المتمكن، ينقط “الساسي” لـ”بنكيران”، فيمنحه نقطة تفوق تتجلى في “تمتع الرجل بقدرة مذهلة على حسن استغلال نقاط ضعف خصومه، فهو يذكرنا باستمرار، حتى لا ننسى، بأن جزءا من هؤلاء الخصوم شارك في تجارب حكومية سابقة ولم يحقق المعجزات التي يطالب اليوم بتحقيقها”.

ألا يُهرِّب “الساسي” النقاش، هنا، ويُحرِّفه عن مواضعه دفاعا عن “بنكيران” وسياسته؟ ذلك أن ما يطالب به خصوم “بنكيران” هو، في الواقع، تطبيق الدستور الجديد وليس تحقيق المعجزات. فالمطلوب هو العمل على تفعيل المقتضيات الدستورية لتعزيز المكتسبات الديمقراطية والاجتماعية والحقوقية والثقافية… وتطويرها، وليس التراجع عنها.

ولم ينس “الساسي” أن يطلعنا على أكبر إبداع لرئيس الحكومة، والذي لم يسبقه إليه أحد من قبله؛ إنه  “ورود أقوال على لسان ابن كيران، لم يسبق لمسؤول حكومي آخر في المغرب أن فاه بها، رئيس حكومتنا، اليوم، يتحدث عن الملك وعن حزبه وأمه وأبنائه وتاريخه واتصالاته ومشاريعه وأفكاره بأسلوب مبسط ونافذ”.

فهنيئا لنا، إذن، بهذا الإبداع غير المسبوق في تاريخ المغرب. وهذا ما كنا محتاجين إليه. ويكفينا ويكفي فقراء بلادنا أن يكون أسلوب “بنكيران” مبسطا ونافذا لتُحَلَّ كل المشاكل. لقد كنا في حاجة إلى من يفتح أعيننا على هذا الإبداع العظيم. ألم نقل في مناسبات سابقة بأن هذه الحكومة تفتقر إلى الإبداع، فتلجأ إلى الحلول السهلة التي يتضرر منها الفقراء وذوي الدخل المحدود (“الحيط القصير”)؟  لقد أخطأنا التقدير والتحليل وظلمنا هذه الحكومة. فشكرا للأستاذ “محمد الساسي” الذي نبهنا إلى أخطائنا.

لكن، ليسمح لي، شخصيا، أن أدخل، من هذا الباب، إلى جانب من حياته الخاصة. فحديثه عن الأسلوب المبسط النافذ، ذكرني بما هو معروف عن الكاتب العام السابق للشبيبة الاتحادية من ولع وغرام بلون من ألوان الفن الشعبي (الذي نكن الاحترام لأهله ولعشاقه)، الذي من بين سماته استعماله لقاموس لغوي فيه كثير من الألفاظ السوقية وتعتمد ألحانه على “الزديح والرديح”. أليس هذا ما يُحبِّب له أسلوب “بنكيران” الفرجوي؟

وعلى كل، فما كنت لأهتم بما كتبه “الساسي عن “بنكيران”، لو لم أكن أعرف مدى تَقيُّحه وسوء أدبه على  رجل الدولة العظيم الذي وضع مصلحة الوطن (يوم كان هذا الوطن مهددا بالسكتة القلبية) فوق مصلحة الحزب وقبِل تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، في ظل دستور لم يكن يمنحه من الاختصاصات إلا الشيء القليل، مقارنة مع ما يمنحه الدستور الحالي لرئيس الحكومة (لكنه، للأسف، يجتهد في تعطيل بنوده). لقد كان “الساسي” من الذين لم يألوا جهدا في عرقلة عمل “اليوسفي”؛ وذلك بالتشويش عليه تنظيميا، وهو آنذاك قائدا للذراع الشبابي لحزب القوات الشعبية.

ويذكرني “الساسي”، بحديثه اليوم عن قوة خطاب “بنكيران”، بصديقه “الأموي” وحديثه عن “جدية” الحوار الاجتماعي بعد حكومة اليوسفي. يعرف كل المتتبعين أن التحسين الذي عرفته وضعية المأجورين (وبالأخص الموظفين الذين استفادوا من ترقيات استثنائية غير مسبوقة) لم يحدث مثله لا في الحكومات السابقة ولا اللاحقة. ومع ذلك، لم نسمع “الأموي” يتحدث عن جدية الحوار وعن تفهم المطالب وشرعيتها إلا بعد حكومة اليوسفي.

خلاصة القول، لقد صدق من قال: “أسوأ الأعداء، من كان يوما صديقك”. وهذا ينطبق على جل الذين خرجوا من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بذريعة أو بأخرى. فلن تجد أحدا منهم (سواء تعلق الأمر بـ”الأموي” و”شعبه” أو “الساسي” و”صحبه”، أو بالذين سبقوهم أو من هم في طور التحضير للحاق بهم) يتحدث بنفس الإعجاب الذي يتحدث به “الساسي” عن “بنكيران”؛ بل، غالبا، ما يعملون على تبخيس عمل “اليوسفي” وتضحيات الاتحاد الاشتراكي. ولا شك أن لعلم النفس والتحليل النفسي ما يقوله في هذا المجال. ولن أقحم نفسي في هذا الموضوع، احتراما لأهل الاختصاص. لكن، لا بد من التأكيد بأن فضائح ومهازل بنكيران وحكومته لن تخفيها لا بهارات “الساسي” ولا “بهلوانيات بكيران” ولا “تقليعات” بعض الأصوات المبحوحة والأقلام المكسورة. ذلك أن الحقيقية هي التي تنتصر دائما، في النهاية.