لحسن أمقران
 
بعيدا عن الطرح الرسمي الذي جعل الأمازيغية ملكا لجميع المغاربة بعد الدسترة والترسيم الأخيرين، يمكن القول إن الأمازيغية هي ذلك الوعاء الحضاري الذي تتفاعل من داخله مختلف الأنساق، فهي جوهر الكيان المغربي ورمز خصوصيته ونبراس الانتماء الحضاري لبلادنا، الأمازيغية ليست ولن تكون مجرد لغة تمتد بعيدا في سلم التاريخ، أو حروف نحتها الأجداد وتحفظها الصخور لتكون شاهدا على إشعاع حضاري متجذر، الأمازيغية ليست ولن تكون أهازيج تتراقص على عذوبتها الأرواح والأجساد، أوعشيرة تجمعها حرمة آصرة الدم، الأمازيغية هي كل ما يتبقى للمغربي بعد أن يعود إلى ذاته طوعا.
 
هذا الانتماء العميق لكل المغاربة، بمختلف أصولهم وألسنتهم وألوانهم ومعتقداتهم، إلى الهوية الأمازيغية لم يكن يوما ليصبح محل تشكيك لولا إصرار بعض القوى التي استاثرت بالقرار السياسي منذ الاستقلال الشكلي على الانخراط في البؤس الأيديولوجي القادم من الشرق، والذي يتأسس على مسخ ومحو هويات الأوطان وإحلال هويات دخيلة بشكل ماكرباسم الوحدة والدين بإيعاز من القوى الامبريالية في سياق تاريخي محدّد.
 
نحن اليوم إذا في سياق لا يقبل بأن تكون الأمازيغية ملكا لجميع المغاربة، ليس بمنطق الدم أو اللسان، ولكن بالنظر إلى مستوى الرداءة البؤس الفكري الذي ولّد لدى البعض مسخا هوياتيا جعله يعيش تيه الانتماء. نحن اليوم أمام عقليات سيكوباثية تجلد ذاتها بمازوخية هوجاء، تحتقر نفسها وتتنكر لها بفصام قلّ نظيره، فلا حرج اليوم أن تؤلف مؤلفات تصف المصالحة الظاهرية للدولة مع الأمازيغية بالخراب، ولا ضير أن ترمى الأمازيغية بالتضييق على لغة الإسلام والمسلمين، في صورة رجعية مغلّفة بالمقدّس المشترك سواء تعلق الأمر بالدّين أو بالوطن، هدفها التمكين للفكر الأحادي من مزيد من الاستئصال والاجتثاث.
 
ما نودّ التركيز عليه في هذا المقام، خطورة إقحام مؤسسات الدولة في هذه الحرب الأيديولوجية الشعواء ضد الأمازيغية باسم الديمقراطية المفترى عليها، كلنا نعلم كم هو موبوء مشهدنا السياسي وكم هو فاسد، كلنا ندرك نسب المشاركة السياسية للمغاربة وأساليب الاستمالة المعتمدة في الظفر بالأصوات، كلنا نعرف حجم التضليل الذي تمارسه المؤسسة التعليمية والإعلامية والمسخ الهوياتي والحضاري الذي لحق بالمواطن المغربي على مدى ستة عقود، وكلنا نعي الدوافع الحقيقية التي تدفع من يمثّلوننا في البرلمان إلى ممارسة "السياسة". أكيد أن الإشكال بنيوي لا يستعصي فهمه بالقدر الذي تستعصي معالجته.
 
لا شك أن هناك نكوصا حقوقيا مفضوحا يتم باسم مؤسسات الدولة بعد مكتسبات فتات، وتمرّدا مذموما تقوده نفس القوى التي عملت على خلق شعب تائه يدور في فلك التبعية البغيضة، لماذا كل هذا الحقد على لغة هذه الأرض أيها الجبناء؟ أتظنون أنكم الوحيدون في هذا الوطن؟ أنتم بمواقفكم السخيفة هذه تذكون الفتنة والفُرقة وتهدّدون اللحمة والسلم الاجتماعي، تنفّرون من الإسلام ولغة الإسلام، ألهذا المستوى أنتم بلداء أنتم الذين قيّدتم لغتنا بقانون تنظيمي تعدمونه على رفوف مكاتبكم اللعينة؟ من أنتم بحقّ السّماء حتى ترفضوا كتابة حروفنا على أوراقنا المالية وهي الحروف التي تملأ جبال وصحاري شمال أفريقيا قبل وفود أطروحاتكم المقيتة؟ أليس فيكم رجل حكيم وأنتم تنقلبون على مبدأ الدسترة بتغاضيكم عن إنصاف الأمازيغية في ترسانتكم القانونية الموقوفة التنفيذ؟ ما الذي أضافه الدستور الذي توافقنا عليه للأمازيغية غير مزيد من التحقير والتنكيل والتدمير ومأسسة الإهمال؟ أين هي الحماية الدستورية التي تقتضيها الحكمة والمسؤولية لصلب انتمائنا؟
 
يتبيّن، بما لا يدع الشك، أننا أمام مؤامرة مركبة تلعب فيها الدكاكين السياسية دور العازل الطبي، دكاكين تمارس الاستمناء السياسي لصالح شبكات أيديولوجية عابرة للقارات، وتتغيى من وراءه الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي لمرتزقتها باسم النضال والتعددية والديمقراطية، ومن يراوده الشك فيما ندّعي نحيله على تاريخ هذه الأحزاب، سبب نزولها والسياقات التاريخية التي أتت بها، مرجعياتها وأرضياتها، "زعمائها" وعلاقتهم بالوجه الخفي للسلطة، نحن أمام "مافيا" سياسوية تنفّذ ولا تفتي.
 
سجل يا تاريخ أننا نندد ونشجب ولكن نتعقل ونهدأ، سجل يا تاريخ أننا غاضبون حانقون، لكننا لسنا يائسين، ويبقى الأمل يحذونا مهما بلغ البؤس السياسي والردة الحقوقية والنكوص التشريعي. سجل يا تاريخ أن ثماني سنوات لم تكف حكومة ما بعد الدستور الجديد لإطلاق سراح الأمازيغية، سجل يا تاريخ أن لجينة من عدد النواب ستحدد –رسميا- مصير لغة وثقافة وحضارة شعب له ثلاثة وثلاثين قرنا من التاريخ، في الأخير، سجل يا تاريخ أننا ننبّه ونحذّر ونهوّل مما هو آت.
 
في الختام، نتوجه إلى راعي الدستور، صاحب الجلالة والمهابة نصره الله، أن يتدخل لتصحيح الوضع وقطع الطريق عمّن يعبث بهويتنا ولغتنا، نسأل جلالته أن يحفّ الأمازيغية برعايته السامية لتكون ثابتا من الثوابت الوطنية في مغرب نريده مغرب التسامح والتعايش الحقيقين، فلا أمل يعلق على أحزاب كارتونية وصولية ولا على نسيج جمعوي مرتزق ولا على كائنات سيكوباثية خبزية تستميت من أجل ألا تكون الأمازيغية ملكا لها، وتسيء بذلك إلى تاريخ وقيم هذا الوطن الجريح.