زايد جرو - الرشيدية / جديد انفو

عسو بن موح كما نسميه ونناديه أستحضر في اسمه ،اسم أبيه "موحا" بكل مواصفات الشهامة والرجولة والأنفة ،كلامه قليل ونفعه على أبنائه وجيرانه كثير ،يظن بك خيرا على الدوام :كريم ،مضياف ، يطعن أقرانه بالرأي ، سعى في الحياة كلها ،لكنه لم يصل مداه في العلاقات ، يتأسف على جيل اليوم الذي لانت سواعده وجفت خصاله ينتظر كل العطاء ،...تراه يوم الجمعة شخصا وقورا :جميل المُحيى ،لباس أنيق ، أبيض ، يمشي بتثاقل لا يلتفت يمينا ولا يسارا، رائحة عطره تأتيك من بعيد ،ويبدو من خلال منظره أنه عاشر وخالط أناسا من نوع خاص في بلاد المهجر ، حيث الجلابيب بالأشكال والأنواع: المقلمة والطويلة ، والبيْن بيْن ، وكلها تزيده هامة وقامة وأناقة وهمة ..يلقب بالحاج عمي موحا :كلامه يأخذ الألباب ويجلب الأنظار ويلفت الأسماع ،..حين يضيق به المكان بالقرية الهادئة يسافر إلى" مونبليي"المدينة  التي احتضنته ،يوم جفت الآبار وجاعت البلاد ليصل الرحم بزملائه الذين فضلوا ، بل بدلوا مكان الأجداد بمكان النصارى والروم ،أذلهم الله جميعا ، وفي فترة غيابه تقوم الحاجة "كلو " بتوزيع أدوار البيت على الابنين وتمنح لعسو الابن الأكبر كل حاجته لملء "تاخنشيت البيضاء  : بالخضر المتنوعة ،ويجب أن تُملأ حتى العنق وتُربط بإحكام ، والواجب إظهار عبارة الدقيق الممتاز وإظهار الحروف المكتوبة بالأحمر، لأنها تبين نوع الدقيق المستهلك ، ونوع المتبضع ..يضعها عسو فوق الدراجة النارية ، ويلوي قرن مقودها مزهوا يلتفت يمينا ويسارا، يحس بنشوة عالية خاصة حيت تأتيه الزوجة منتشية أيضا بما جاء به الزوج، من السوق أمام زوجة أخيه حدو الذي لا تُسند له مثل هذه المهام ،لصغر سنه ،ومن الضرورة احترام السلم التراتبي في البيت .... عسو لا يمكنه أن يقود سيارة الحاج موحا لأن الحاجة أمنت رفيق الدرب على مفاتيحها التي تضعها في "أحبو" قريبا من القلب، رغم برودتها ولا يمكن لأي يد أن تمسها أو تتطاول لأخذها ،هي في أمان وفي يد أمينة حتى يعود إليها بسلم وسلام ..


عسو الابن الأكبر والذي يحمل بعض مواصفات أبيه متزوج وله ابنان وثلاث بنات يعيش مع أخيه حدو ،الذي يصغره سنا وله أيضا ابنتان ولا زال يفكر في الإنجاب ، فيجب ألا يتفوق عليه أخوه في عدد الأبناء ،كما أنه ما زال غير مرتاح البال لأن زوجته لم تلد له ذكرا بعد، وهل يمكن أن تلده له تلك هي المشكلة وكأن الزوجة هي المسؤولة ، عن صناعة الذكور والإناث ..الكل فرح بالحاج الذي مازال في سفره والذي طال هذه المرة على غير العادة ، أما الحاجة فهي راضية بالأبناء والأحفاد، لا تُقضى الأمور إلا برضاها :تزداد مكانة عندما تتبضع بدورها من سوق النساء للعروستين وتجود عليهما بالملابس الداخلية التحتية لأن شراءها من اختصاص النساء : بضاعتها سلع رخيصة بلون واحد حتى لا تغضب الواحدة من الأخرى ..عاد الحاج هذه المرة منهكا والله أعلم ماذا وقع له أو أنه يكتم مرضا خبيثا اختار جسده مسكنا وموطنا له :زار الطبيب هناك لأنه لا يثق في عمل أطباء بلده لكن صحته تزداد علة وتعللا وضعفا ..لم يدُم الحال طويلا.... والدوام لله " الحاج أترحم ربي " كما رددت الحاجة بحسرة شديدة ، فالحياة لا تبقى لحي وقد قصدته الموت بين أصحابه على غدر من الزمان ، وقضى الله أن يموت ... رحمه الله، ورحم موتى المسلمين أجمعين .


بقيت الحاجة نادبة نادمة على الحال والأحوال تشم رائحة المرحوم في جلابيبه المتنوعة، والتي لم تستطع التصدق بها ..وعسو لا زال على حاله يأكل ويمشي في الأسواق ..نابت الحاجة مناب المرحوم واستفادت من تقاعده بعد جهد جهيد مع الأوراق ،التي سهل مأموريتها أمغار البلدة جزاه الله خيرا ..الأضرار رافقتها رغم مُجالستها الأخيار و تأففها عن مصاحبة الأشرار :استأنست بالوحشة وغاصت في الدهشة، أسلمت بدورها نفسها للقدر بعد شهور معدودة وبقي الأخوان يتصارعان، حول الخوان والزعامة والمكانة ، كما تصارعا قبلهما الأخوان :قابيل وهابيل ،لم يخطر على بالهما أن الشهر المقبل، سينقطع راتب التقاعد وستتعقد المشكلة ، وسيرن نبأ اجتياح الفقر ... حل موعد السوق تحضيرا لعيد الأضحى أخذ عسو دفتر الشيك فرحا ،مترنحا، ومترحما على الحاج وما ترك ،فلم يفكر يوما أن يكون رجلا ليعرف من أين تؤكل الكتف، أو كيف ينحت الناس خبزهم اليومي من الصخر ، ليبحث عن عمل يحفظ به ما وجهه، بل ينتظر أن تتغير الحياة طواعية : ذكرني منظره بما كتبه يوسف إدريس في قصته " المرتبة المقعرة " حيث تزوج البطل في اليوم الأول والمرتبة منفوشة مستمتعا بالأيام الأولى للزواج فخاطب زوجته المسكينة التي تنتظر منه أن يستفيق من أجل الغد والحياة لكنه مُنعم بالدفء فطالبها ذات صباح قائلا : انظري من النافذة هل تغيرت الدنيا فقالت لم تتغير، فقال :لأنم أسبوعا إذن، وبقي يكرر نفس السؤال إلى أن نام عشرة أعوام ، فلما صنع جسده أخدودا عميقا على المرتبة أي الفراش رمته الزوجة من النافذة ولما سمعت وقع عظامه على الأرض مع فراشه ، قالت يا الهي لقد تغيرت الحياة .." عسو أيضا ينتظر تغير الحياة لكن زوجته لم تفعل. احتشاما وتقديرا ... ولج باب البنك المركزي مد شيكه وبطاقة هويته انتظر وهو يسمع بإمعان دقات خفيفة وسريعة على لوحة الأزرار ، صاحبتها دقات عالية لقلبه وكأن حدسه أخبره بأمر جلل... رد عليه المستخدم حسابك فارغ تمتم بكلمات غير مفهومة أهْ..أهْ. كيف "مايدجران "..أيقن أن ما اخبره به أحد الجيران صحيح حيث لا يمكنه أن يستفيد من تقاعد أبيه ... جهل عسو ما يجري بالليل والنهار عرف الصغير والكبير بدأت العجائب والغرائب تتراءى له غارت عيناه ، مد يده للجار العزيز لملء تخنشييت .. فانقلب الرضا بالعيش سخطا وسبا وقذفا على الحاج المسكين الذي علمه الخنوع والاتكال ،الجلابيب أصبحت صورا ، الأرض تشققت وأجدبت واتفق مع أخيه أن يبيعا حلي الحاجة للتبضع لكن حتى متى ؟ .. اهتدى الأخ الأصغر لحل مفاده تقسيم التركة ليحلو لكل واحد منهما بيع ما يشاء وكيفما يشاء لتدبير الأزمة...مسك عسو نفسه من السقوط لقد كان مخلصا في الولاء للأب والأم ..خانته العبارات وطالت الشكاية وتضاعفت الرزية وسأل نفسه : هل يمكن أن يكون مقطع الكلام عيا وعجزا ومنتهى الحياة خيبة ؟....وعاد من جديد ليلوم الأب الذي لم يعلمه كيف يمكن أن يكون رجلا ولم يلقنه دروس الحياة التي يجب حفظها فأحرق ما تبقى من الجلابيب القديمة والجديدة التي سترته وسترت أباه وهاج واتعظ لكن بعد فوات الأوان ..الأخ حدو باع الأصل والفصل فقتل بذلك تاريخ أبيه وأجداده ليشرب من عائدات الإرث ماء معدنيا نقيا ،ولم يعبأ بفضل التاريخ عليه ، فلم يستطع رفع عماد بيته ،وغادر المكان، لكن عسو بقي عالقا متمسكا بنصف البيت،قصعته دون طعم ، تجود عليه أخته المتزوجة في ليون الفرنسية ، من حين لآخر ببعض الملابس المستعملة وتزوده ببعض النقود حين يحلو لها ،والمعاناة تزداد يوما بعد يوم ، تمنى لو منح أباه جزءا من عمره لتستمر الحياة النفعية فواجه نفسه لأول مرة قائلا :إن قواعدي التي بنيت عليها أمري وأركاني التي أسندت إليها شأني، لا يكفيها شرح كتاب أو بيان خطاب لأنها ملتوية البواطن والظواهر ... فخذ الحكمة يا صاحبي ،وأشعر قلبك بالخوف وطالبه بالصبر والجد والكد على المهانة والذل في الصغر فالإشارة باللسان نقص وعجز... ولا تحسن الظن بجلباب غيرك لأنه سيجر عليك خيط الندم :فقد خنقتني العبرة تذكرا لهذه الأحوال من أب كان صفحة وجهه مبشرة بالخير وحركته ناطقة بالحق ولسانه ناصح لكل مخلوق إلا لي وأخي، فماذا تبقى من الذاهبين غير الذكر :وقد تذكرت أشياء قد مضت لكنها أبت أن تمضي، وليس للمحزون غير التذكر، البيت دون عماد ولا سقف ،ران الكساد و قل الزاد ، فلا فرحة في فؤاد، ولا ضحكة فوق الفم ،تهدمت المباني وذبحت المعاني وقُتلت الأماني وطال المساء ..... فالجلباب صورة تسترنا بل يحاول كل فرد وهو طفل صغير أن يدخل قدماه الصغيرتان فيها ،تلك هي الفطرة ، والبراءة ،فكل أب يريد أن يكون طفله نسخة منه ؟ وأحسن بكثير ؟ .يورثه مهنته وكل جناته الوراثية : الولاء،الانتماء وكلها صفات لا يمكن الاختلاف فيها أو عليها ،لهذا عشقت هذا الجلباب بجنون ،وطهر وشهامة ،فعلقت في وسط الطريق بوجه لا وجه له و بعنُق لا يصلح إلا للمشانق، وجسمي لم يعد فيه موضع صالح للبُشرى ، والعجز كل العجز أن يموت الإنسان جبانا ،يا ربي ضاقت ولم يبق لي إلاك والأمر لك ، فالشرف الحقيقي كما بدا واضحا لي بعد التجربة هو الاستقلال ، ويجب الإصرار عليه والعيش بشخصي أنا .. مع كل الاحترام لأبي..اللهم ألطف بنا وافككنا من أسرنا واجبرنا من كسرنا وحولنا من عسرنا إلى يسرنا فجودك فائض وحماك نافذ وملكك عظيم ورحمتك واسعة ..اللهم إنا نلوذ بك عائدين ونعوذ بك لائذين ونسألك أن تشرحنا للزلفة عندك بحسن القبول منك يا ذا الجلال والإكرام والسلام عليك .


اللوحة للفنان محمد الزياني