بعد زهاء أسبوع من انطلاق حملة "مقاطعة" ثلاث منتوجات في السوق المغربية، نجد تسليط الضوء على بعض جوانب هذه الخطوة الفريدة من نوعها ببلادنا أمرا يفرضه الواقع لفهم الدواعي الحقيقية واستشراف المآلات الممكنة، وإن كنا على يقين مسبق أن هناك من سيعتبرنا –عبثا- وبمجرد قراءة العنوان خدام الباترونا المغربية وأعداء "الشعب" بالاصطلاح المغربي.

بداية، لن نختلف حول كون مقاطعة بعض المواد الاستهلاكية في الأسواق سلوكا متجذرا ومألوفا في المجتمعات الغربية، وهو سلوك حضاري راق، بوقع إيجابي يؤدي في غالب الأحيان إلى المزيد من تجويد المنتوج أو التراجع عن الزيادات أو غيرهما من الأهداف حسب الحالات، ولن نختلف مبدئيا حول ضرورة وحتمية استيراد هذا السلوك إلى بلادنا مع ضرورة حفظ جوهر الفكرة وسموها على كل الحسابات والتجاذبات، والمقاطعة مبدئيا سلوك ندعمه ونثمنه متى كان نابعا من صميم الفئات المتضررة من القرارات الماكرو-اقتصادية.

إن نجاح مقاطعة منتوجات بعينها في السوق يستدعي تخطيطا محكما وهندسة متمكنة. بادئ ذي بدء، يتعين أن يكون القرار واعيا لا ينساق مع حسابات ذات خلفية سياسية، موضوعيا يضع نصب أعينه بسطاء المواطنين ولا يستهدف غير مصلحة المستهلك، واقعيا يختار بعناية المنتوجات التي يفترض مقاطعتها، وذكيا يهتم بزمن المقاطعة ويروّج للنتائج المنتظرة. هذه الشروط الموضوعية الأربعة ليست بالبساطة التي نعتقد خصوصا في مجتمع تغلب عليه الأمية وينتصر للهستيريا الجماعية.

لنعد إذا إلى الحملة المعلومة والتي تهمنا في هذا المقام، فهي حق حقيق أريد به باطل، ونقول ما نقول ليس هروبا إلى الأمام كما قد يظن البعض، أو محاباة لرموز الرأسمالية المتوحشة من مصاصي دماء الفقراء، والمغاربة يعرفون جيدا من كان وراء هذه الحملة التي أريد لها أن تنسب إلى فئات الشعب البسيطة، في حين أن المسألة وبكل بساطة تصفية مقيتة لحسابات سياسوية ضيقة تريد الركوب على اليأس المستشري في النفوس، وتأتي في سياق دقيق ومدروس.

قد يقول قائل أن "صاحب الدعوة" لا يهم متى كان ذلك في مصلحة المواطن البسيط، وهو طرح مقبول نسبيا، إلا أن استحضار الشروط الأربعة السالفة الذكر أمر بالغ الأهمية، وهنا ما دخل المواطن البسيط بالماء المعدني وهو الذي يقتتل من أجل ماء "الصنبور" أو حتى ماء "الصهريج"، هذا وسبق وقُمع واعتقل بزاكورة وتنغير وغيرهما؟؟ وما دخل نفس المواطن البسيط بالحليب وهو الذي يستميت من أجل توفير كأس شاي لبنيه على مائدة الفطور؟؟ ولماذا التركيز على موزع محروقات بعينه علما أن هناك موزعين وضعوا أسعارا تفوق أسعار الموزع المعلوم؟؟ ولماذا لم نقاطع منتوجات أخرى عرفت مؤخرا ارتفاعات صاروخية وتدخل في خانة التبضع اليومي للمغاربة؟؟

لنعد قليلا إلى الوراء ونسائل أنفسنا، من هو رائد القرارات اللاشعبية في الحكومات المتعاقبة وبامتياز؟؟ من تخلى عن صندوق المقاصة وقاد حملة واهية لشرعنة القرار؟؟ من قضى على القدرة الشرائية للمواطنين واستهدف الطبقة المتوسطة؟؟ من عمد إلى تناسي الضريبة على الثروة؟؟ من تملص من مسؤوليته الأخلاقية والدستورية عن مراقبة أسعار المحروقات وملاءمتها بأسعار الأسواق العالمية؟؟ من عجز عن تنويرنا بما خلصت إليه اللجنة البرلمانية بخصوص أسعار المحروقات؟؟ من أبطل قانون المنافسة عوض الإسراع بتفعيله علّه يخفف على المواطن المقهور؟؟ من عجز عن وقف الريع فبالأحرى اجتثاثه؟؟

إن المواطن البسيط في بلادنا طعم سهل يوظّف للإيقاع بالجبابرة والأباطرة في شباك الابتزاز السياسي، ولقمة سائغة تتقاذفها السياسات الفاشلة لحكومات هجينة، ولن ننسى لجوء حكومة ما بعد "الحراك الشعبي" لسنة 2011 إلى جيوب فقراء الوطن ل"إنقاذ" مكاتب وصناديق أفلست أو تكاد بعدما اختلست أموالها بطريقة أو بأخرى، وهنا نستحضر نازلة المكتب الوطني للماء والكهرباء وواقعة الصندوق المغربي للتقاعد وغيرهما كثير، وإذ ذاك لم يستحي زعيمها السابق يوم قال قولته الشهيرة "عفا الله عما سلف" والتي سجلها التاريخ بمداد الخزي والعار.

ختاما، إن إقطاعيينا ليسوا في حاجة إلى مواقفنا –المتحفظة من المقاطعة بالشكل الحالي- لمواصلة نهشنا وتجفيف عروقنا من الدماء، ووقف الجشع الرأسمالي الموغل في الوحشية خيار وليس اختيار، إنه وقف لن يتم إلا بتحمل الدولة لمسؤوليتها في حماية مواطنيها، ومن خلال مبادرات من الشعب ولصالح الشعب تساندها حكومة مواطنة ووطنية، ولن ننجح في مثل هذه المساعي ما لم نحط بالموضوع إحاطة كاملة تستحضر قيمة الضرائب التي تفرضها الدولة على المواد المستوردة ومصير الملايير التي تصرف باسم الدعم والتشجيع وغيرها من الأسرار والمفاهيم ذات الصلة.