يزخر التراث الأمازيغي بالكثير من الكنوز الثقافية لازالت في حاجة إلى المزيد من البحث والدراسة قصد فك رموزها والكشف عن دلالاتها وأبعادها، فإذا كان الباحثون الأمازيغ قد قدموا الكثير من الخدمات للثقافة الأمازيغية في مختلف المجالات، فإن زوايا كثيرة لا زالت لم تنل ما يكفي من التنقيب والبحث، خصوصا في المناطق النائية التي لم تصل إليها بعثات الباحثين، مناطق لم ينتبه إليها رغم ما تختزنه من إمكانيات كثيرة للبحث العلمي في كل المجالات المعرفية. إن البحث العلمي الذي نقصده سيضمن الحفاظ على تلك المقومات الثقافية وضمان استمرارها على الأقل كوثائق مكتوبة أو مصورة لكي تطلع عليها الأجيال القادمة و تساعد باحثين آخرين في فهم الكثير من القضايا المتعلقة بالإنسان الأمازيغي في الشمال الإفريقي. هذه البحوث ستساهم كذلك في تثمين تلك الثقافة كإنتاج إنساني يجب أن يظل خالدا، لأنه أمام تسارع وتيرة العولمة وهيمنة الثقافات الأخرى قد نفقد في العقود القليلة المقبلة الكثير من صلاتنا بماضينا وذاكراتنا وثقافتنا.

تشكل الألعاب الأمازيغية من بين هذه الكنوز الثقافية التي يجب الانتباه إليها من طرف الباحثين وتوفير الإمكانيات الضرورية للوصول إلى حقيقتها ودراسة جوانبها الرمزية والأدوار التي لعبتها في البيئة الأمازيغية قديما.

ألعاب كثيرة كان الأمازيغ يقبلون عليها في أوقات فراغهم أو في المناسبات الدينية أو الوطنية أو المواسم المحلية، كانت تلبي حاجات اقتصادية و اجتماعية ونفسية كثيرة في ظل نظام القبيلة الذي كان سائدا أنذاك. فالإحصائيات السكانية تؤكد أن 95 % من سكان المغرب مع بداية القرن العشرين كانت تقطن في القرى، وبالتالي فإن نسبة هامة منها كانت منشغلة بهذه الألعاب قبل أن تأتي قوات الاستعمار لتدمر البنية الثقافية للقبيلة الأمازيغية، وتزحف على المجتمع المغربي المؤثرات الحداثية كالتلفزيون و كرة القدم والسينما ...

من هذه الألعاب نذكر " أمسيسي " التي كانت منتشرة بمنطقة تونفيت التابعة إداريا لإقليم ميدلت حاليا وإقليم خنيفرة سابقا، تقع تونفيت في المنطقة الحدودية بين الأطلسين الكبير والمتوسط وتحديدا عند السفح الشرقي للجبل الذي ينبع منه واد ملوية، كما يطل عليها جبل المعسكر المعروف.

في اسم اللعبة

"أمسيسي " هي كلمة أمازيغية مشتقة من فعل "سيسي" وتعني لغة نقل شيء من مكان إلى أخر و اصطلاحا تطلق على نقل الحبوب من الحقل إلى مكان درسها. وهناك طريقيتن للقيام بهذه العملية، فإما باستعمال أكياس ضخمة تصنع من الصوف تسمى " إشلفان "، أو عن طريق قطع خشبية أو حديدية تسمى " لقواس " توضع في كل الحالات فوق ظهور الدواب وتملأ بالحبوب. وهناك طريقة أخرى وهي استعمال قطع خشبية تسمى" إسكني" يتم الربط في ما بينها وتملأ بالقمح أو الشعير ويحملها أشخاص يسمون ب "إمسيسين". لكن ما العلاقة بين هذا الفعل ولعبة أمسيسي؟

من خلال الطريقة يتم بها اللعب يتضح أن العلاقة ترتبط بكون لاعب أحد الفريقين يطلب من لاعب الفريق الآخر أثناء اللعب الجلوس لاستقبال ضربة الكرة، بطريقة شبيهة بطريقة حمل "إسكني". كلمة " أسيسي " لا زالت تستعمل في بعض المناطق الأمازيغية في مباريات كرة القدم حيث يقال " ساسين أسن " عندما ينتصر فريق على فريق آخر بحصة ثقيلة، وبهذا المعنى قد يكون معنى " أمسيسي" مرتبط بحصة الأهداف التي تسجل في المباراة، أضف إلى ذلك أن هذا الفعل فيه ما يفيد التبادل، ف "أمسيسي" لها معنى تبادل فعل "أسيسي" .

شروط اللعبة و جمهورها :

تجدر الإشارة أولا أنها لعبة قديمة وتعود لقرون، تلعب بواسطة كرة ذات حجم صغير (أكبر من كرة التنس بقليل ) يتكلف أحد اللاعبين بصنعها بقطع من الأثواب غير الصالحة إذ تجمع بطريقة محكمة بواسطة إبرة كبيرة( المخيط)، طيلة الليلة التي تسبق المباراة توضع الكرة في الماء لكي تكون صلبة أثناء اللعب. ظلت هذه اللعبة حاضرة في منطقة تونفيت إلى حدود بداية التسعينيات،واندثرت بعد ذلك. شاهدت بشكل مباشر أطوار آخر مباراة بمنطقة ألمو أمزيان قرب مسجد حي إشمحان، وقد أكد علي كرو ، وهو أحد ممارسي هذه اللعبة خلال تلك الفترة ، لنا نفس الشيء قائلا أنها آخر مباراة و انتهت بسبب نزاع بين لاعبين من الفريقين. كما صرح لنا أنه شارك في خمس مقابلات رسمية، وقبل تلك المشاركة كان يتدرب في منطقة أردوز قرب تونفيت رفقة أصدقائه الرعاة.

تتميز اللعبة بطابعها القبلي فنادرا ما وجد فرد من خارج القبيلة داخل الملعب، (يشارك بعض اللاعبين من قرية " إمتشيمن" القريبة من تونفيت ضمن فريق إشمحان في بعض المباريات). تجرى أطوار المباراة بين فخدات قبيلة أيت علي أبراهيم حيث يتوزع المنتمون إليها على فريقين الأول يتكون من فخدة إشمحان و وأيت تاغشت والثاني يتكون من فخدات أيت وخليف وأيت عبدي و أيت واردوز .

تجرى المباريات في أوقات محددة في السنة كالأعياد الدينية أو الوطنية، وتنطلق المباراة زمنيا بعد صلاة العصر حيث يمكن أن يكون في البداية عدد قليل من اللاعبين، ثم كل من التحق ينضم إلى اللعب. ليس هناك عدد محدد من اللاعبين لكل فريق، إذ يمكن أن يتكون فريق ما من عشرة لاعبين بينما الفريق الآخر مكون من ثمانية فقط. بالإضافة إلى اللاعبين الرسميين نجد لاعبين غير رسميين، وهم في الغالب من الأطفال يتدربون على شروط اللعب ويحتكون باللاعبين الكبار و يأتون بالكرة عندما تتجاوز حدود الملعب.

عندما يصبح عدد اللاعبين كافيا تبدأ أطوار المباراة بشكل رسمي بدون حكام، ويتمحور اللعب حول تبادل الضرب بالكرة ولحامل الكرة الحق في ضرب الجهة اليسرى للاعب الآخر والذي يكون جالسا بطريقة خاصة( يضع يديه على وجهه لحمايته من الكرة )، هذا الشرط كان يعرقله لاعبون يستعملون يدهم اليسرى في رمي الكرة، حيث عوض أن يضربوا الجهة اليسرى عليهم ضرب الجهة اليمنى، لكن كان يتم تفادي ذلك بتعيين كل فريق للأشخاص الذين يستقبلون ضربات اليد اليسرى. بالإضافة إلى كل هذا فإن كل لاعب يضرب بالكرة عليه أن يركز على أن تلمس الكرة جزءا من جسد اللاعب الجالس ( أصابعه أو كتفه) وتتجاوز باقي اللاعبين والخط الذي يتم تحديده في طرفي الملعب، وعندما تنطلق الكرة يجري رفاق اللاعب الواقف للوصول إلى ما وراء الخط قبل إعادة الكرة إلى الملعب، وهكذا دواليك. يتم تسجيل الأهداف من كلا الفريقين دون عدها في الغالب لكن الهدف الهام هو الذي يسجل لآخر مرة قبل آذان صلاة المغرب حيث يعتبر الفريق الذي يسجله منتصرا في المباراة.

يحج عدد كبير من سكان القرية لمشاهدة أطوار المباريات من كلا الجنسين ومن كل الأعمار، وقد سبق وأشرنا إلى أن الأطفال يلتقطون الكرة ويعيدونها إلى وسط الملعب. ويكون دور النساء هاما حيث يساهمن في تشجيع اللاعبين بالزغاريد عند تسجيل الأهداف، وإن كان مكانهن بعيد عن الملعب مقارنة مع الذكور. عندما تنتهي المقابلة ينصرف الفريق المنتصر وجمهوره منتشين بالفوز ويحتفلون برقصة أحيدوس وسط حيهم، في حين يغادر الفريق المنهزم الملعب بصمت ولا حق له في الرقص.

لعبة أمسيسي في عصر البلايستيشن

لو سألنا الأطفال والشباب اليوم في بلدة تونفيت عن لعبة " أمسيسي" أكيد أنهم لن يعرفوا عنها شيئا، سيفاجؤون بما كان عليه اللعب قديما، إنهم يجهلون أن أجدادهم كانوا يمارسون الكثير من الألعاب سواء بشكل فردي أو جماعي. نشير إلى أن جمعية ملوية العليا ببلدة بومية إقليم ميدلت تنظم منذ ثلاث سنوات مهرجانا خاصا بالألعاب الأمازيغية القديمة وتستدعي مختلف الممارسين من مناطق متعددة. ومن أهم الفرق التي شاركت في الدورة الأخيرة فرقة أيت أشعا أعلي التي تلعب لعبة " أمشقد " وهي لعبة تشبه كثيرا لعبة "أمسيسي" ولا استبعد أن تكونا لعبة واحدة على اعتبار أن المجال الجغرافي لانتشارهما واحد، وكذا بعض شروط اللعب وشكل الكرة. من خلال ما توفر لنا من معطيات حول هذه اللعبة وظروف إجرائها فإن ما ساهم في اندثارها يرتبط بطبيعتها العنيفة، فالرواية الشفوية تتحدث عن إصابات خطيرة في صفوف اللاعبين خلال المباريات حيث منهم من كسرت أسنانه أو أصابعه لأن المباريات كانت تستغل لتصفية الحسابات الشخصية بين اللاعبين.

ما تقوم به جمعية ملوية العليا يدخل في إطار الحفاظ على الثقافة الأمازيغية وضمان استمرارها، وعلى الشباب الأمازيغي استثمار الإمكانيات التقنية المتاحة الآن للمزيد من البحث ولم لا إحياء هذه الألعاب وتكييفها مع الواقع الحالي. كما أنه من واجب الجمعيات الأخرى أن تحذو حذو جمعية ملوية العليا للمساهمة في حفظ إرثنا الثقافي من الاندثار.