تُروِّج بعض المواقع الإليكترونية والجرائد الورقية لما سمي بـ"نداء من أجل مستقبل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، أو ما سمته إحدى الصحف بـ"ميلاد حركة تصحيحية داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية". وتُركِّز هذه المنابر، في هذا الترويج الإعلامي، على من أسمتهم بالوجوه البارزة (أو القياديين البارزين) في الحزب. وبما أن النسخة التي أتوفر عليها، لا تحمل أي توقيع، فلن أوجه خطابي لأي شخص من الذين ذكرت الصحافة أسماءهم.

وفي غياب معطيات دقيقة حول "المبادرة"، إن صحت هذه التسمية، فإن القراءة الأولية لما سمي بالنداء "من أجل مستقبل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، تُبرز بوضوح بأن من صاغ (أو صاغوا) هذا النداء كان (أو كانوا) يفكر(أو يفكرون) في شيء آخر غير مستقبل الاتحاد؛ اللهم إن كان المستقبل عندهم هو الشد إلى الخلف والمكوث في الوضعية التنظيمية المزرية التي كان عليها الحزب قبل المؤتمر الوطني التاسع. وسأحاول تبيان ذلك من خلال النداء نفسه.

يكفي المرء أن يقرأ الفقرة التي تتصدر النداء ليحكم على المبادرة بحتمية الفشل لكون أصحابها يفتقدون للنظرة الموضوعية والنزاهة الفكرية؛ ذلك أنهم يقفزون عن الواقع ويتعالون عن الحقائق؛ بل ويحرفونها. ومن البديهي أن تبخيس الناس أشياءهم والافتراء عليهم، لن يزيد إلا في تعميق الخلاف، كيفما كان نوع هذا الخلاف. فالقول بأن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية "يجتاز مرحلة دقيقة، حرجة، تتسم باحتقان داخلي، أضحى ينعكس سلباً على السير العادي لمؤسساته، كما أمسى يتهدد مناعة وحدته، وسلامة تماسكه... وإزاء استمرار، بل تفاقم هذه الوضعية المقلقة، فإن المناضلين والمناضلات والأطر الاتحادية من مختلف الهيئات والقطاعات والمجالات الحزبية، ليدعون بكل حزم ومسؤولية إلى التعبئة الاتحادية من أجل العمل على توفير الشروط الضرورية لاحتواء ومعالجة هذه الوضعية برؤية رشيدة، ومنهجية رصينة، تروم تحصين وحدة الحزب من جانب، وتقويم تدبير شؤونه من جانب آخر"، فيه تحامل وتنكر وتهويل وافتراء...

لقد حُمِّلت هذه الفقرة أشياء يكذبها الواقع وتفصح عن الخلفية الحقيقية التي تحرك أصحاب "النداء". فهي تتحدث عن وضعية لا يمكن للقارئ الموضوعي والمتتبع المحايد لما يجري داخل الاتحاد اشتراكي أن يسلم بمطابقتها للواقع الحالي لهذا الحزب؛ اللهم إن كان من الذين يعانون مما أسميناه في مقالنا الأخير بـ"عقدة لشكر"، والتي أصبحت مستحكمة في البعض.

يتجاهل أصحاب "النداء" أسباب ما تسميه الصحافة بأزمة الاتحاد الاشتراكي"، والتي يعرف الجميع كيف تم اختلاقها بالإصرار على فرض ما يسمى بـ"تيار الانفتاح والديمقراطية"، رغما عن قرارات المؤتمر واللجنة الإدارية والمجلس الوطني. كما يتجاهلون المجهودات (التنظيمية والسياسية والثقافية والفكرية...) التي بذلتها وتبذلها القيادة المنبثقة عن المؤتمر الوطني التاسع (وأنا، هنا، أسجل ما تراه عيني ولا أنسج حكايا من الخيال). لكن نداءهم لا يتردد في وصف الوضعية بالحرجة والمقلقة ويسمها بالاحتقان، الخ.

أضف إلى ذلك، فهم يفتقرون إلى فضيلة التواضع والوضوح حين يقول النداء: "فإن المناضلين والمناضلات والأطر الاتحادية من مختلف الهيئات والقطاعات والمجالات الحزبية، ليدعون بكل حزم ومسؤولية إلى التعبئة الاتحادية..."

لا يمكن لأي اتحادي متشبع بالثقافة التنظيمية أن لا يتساءل عن المقصود، في هذا الظرف بالذات، بالتعبئة الاتحادية؛ وما نوعها وشكلها ومكانها؟ وإذا علمنا أن الاتحاد يعيش تعبئة مستمرة (دينامية جديدة) منذ مطلع 2013، تعكسها المؤتمرات الإقليمية (حوالي 40 مؤتمرا والباقي في المراحل الأخيرة للتحضير) والقطاعية (أهم القطاعات المهنية والقطاعات الموازية) والأيام الدراسية واللقاءات التواصلية والفكرية...؛ وإذا عرفنا أن أصحاب التيار قد "فكوا الارتباط" مع "لشكر" أو قطعوا شعرة معاوية التي كانت تربطهم به (كما قال أحدهم)، فيحق لنا أن نتساءل: هل يمثل أصحاب "النداء" خيارا ثالثا أو تيارا ثانيا؟...أم أن الأمر لا يعدو أن يكون رضوخا لابتزاز تمارسه الجهة التي تهدد بالانشقاق؟...وقد يكون هذا ما يعنيه البيان/النداء بالمحافظة على وحدة الحزب.

في رأيي المتواضع، لو كان لأصحاب النداء (إلى حد الساعة أجهل من يكونون بالضبط) نية في رأب الصدع، كما يزعمون، لاقتصر الأمر على من يمكن أن نسميهم بالحكماء (أو القادة التاريخيين أو المسئولين السابقين، الخ)، يكون دورهم، أساسا، تقريب وجهات النظر لإيجاد حل في إطار المشروعية، يحترم القرارات والمؤسسات والأدبيات الحزبية، ويسترشد بالتراكمات الإيجابية. لكن ما أخشاه، هو أن يكون قد تمترس خلف هذا النداء أصحاب الريع الحزبي الذين كشروا عن أنيابهم حين شعروا بتهديد مصالحهم أو بنهاية "صلاحيتهم". وما يحرك هؤلاء هي مصالحهم الخاصة ومذهبهم، في ذلك، "أنا ومن بعدي الطوفان".

شخصيا، لا أعتقد أن هناك اتحاديا متشبعا بمبادئ حزبه وناكرا لذاته ومتغلبا عن أنانيته وواضعا نصب عينيه مصلحة الاتحاد والوطن قبل المصلحة الشخصية، سيعادي أية مبادرة ترمي إلى الحفاظ على وحدة الحزب وتماسك صفوفه.

لكن لِيَّ اليقين، أيضا، بأن أية مبادرة لا تحترم ذكاء الاتحاديين وذاكرتهم، سوف يكون مآلها الفشل (والفشل الذريع، بدون شك) . فكيف يمكن أن نستسيغ أن يلغي أصحاب النداء المؤتمر الوطني التاسع الذي عرف تمرينا ديمقراطيا غير مسبوق؟ وكيف يستساغ أن يساوى بين من يتمتع بكل الشرعية التنظيمية وبين من يشتغل خارج هذه الشرعية؟ وكيف...؟ وكيف...؟
يبدو، من الوهلة الأولى، أن أصحاب النداء أخطئوا العنوان وبالتالي الهدف حين اختاروا السير في الاتجاه المعاكس للمنطق وللواقع. فمنطق الأشياء يقتضي الدفاع عن الشرعية والمؤسسات والقطع مع التسيب. كما يفرض الإقرار بما تحقق على أرض الواقع والاعتراف بالفضل لأصحابه.

وأعتقد أن التاريخ القريب للاتحاد الاشتراكي، سيفيدنا كثيرا، في هذا الباب، في فهم بعض الأشياء. وأقصد، هنا، بالضبط، المؤتمر الوطني الثامن الذي يمكن اعتباره المحطة الأساسية التي قطع فيها الحزب مع الشرعية التاريخية وأسس للشرعية الديمقراطية. وأتذكر أن انتخاب الأخ "عبد الواحد الراضي" كاتبا أول (من بين ستة مرشحين) في هذا المؤتمر، كان بناء على تعهده على تفرغه للتنظيم لإعادة بناء الحزب. وكانت نقطة إعادة البناء تتردد في كل الاجتماعات (المجلس الوطني؛ اجتماع كتاب الجهات والأقاليم...). بل قد وُضع سقف زمني لإنهاء عملية إعادة البناء من أجل التفرغ للعمل السياسي الذي كان ينتظر قيادتنا وحزبنا.

وبسبب المشاكل الداخلية والصراعات الشخصية، لم يُنجز أي شيء من برنامج الأخ "الراضي". ودون الدخول في التفاصيل، أشير فقط إلى ما قاله في عرضه السياسي أمام إحدى دورات المجلس الوطني، وقد بلغ منه اليأس مبلغه، بأننا نسير نحو انتحار جماعي. إنه حكم قاس؛ لكنه تعبير عن واقع الحال آن ذاك. فالمستفيدون من الوضع كانوا يعرقلون كل عمل تنظيمي يمكن أن يضع حدا للتسيب؛ وهذا ينطبق على الوضعية محليا ووطنيا وقطاعيا.

لكن، بعد المؤتمر الوطني التاسع، شعر المناضلون بعودة الحياة إلى حزبهم؛ حيث انطلقت دينامية جديدة بالاتحاد، تنفيذا لما تعاقدت عليه القيادة الحالية مع المؤتمرين، والذي ستحاسب عليه في المؤتمر المقبل. ومهما تكون الأخطاء التي يمكن أن تقع فيها القيادة الحالية (سواء اتفقنا أو اختلفنا معها)، فإن محاسبتها سوف تكون في المؤتمر المقبل (وقبل ذلك في الأجهزة التقريرية للحزب) وليس بالخرجات الإعلامية التي لا تخدم إلا خصوم الحزب وأعدائه. وكل عمل خارج التنظيمات والمؤسسات الحزبية ما هو إلا تشويش على الحركية التي يعرفها الاتحاد وعرقلة لها.

خلاصة القول، الحديث عن وحدة الحزب بالشكل الذي تم التعبير عنها من قبل أصحاب النداء، لا يعدو أن يكون كلام حق يراد به باطل. فلا معنى للوحدة خارج الشرعية. والذين يسعون إلى خلق تنظيم جديد أو الالتحاق بتنظيم قائم، لن يوقفهم لا النداء ولا الاستجداء. فبعد أن فشلوا في إيقاف العجلة التنظيمية (لدوافع منها ما هو معروف ومنها ما هو غير معروف)، اتفقوا على مغادرة سفينة الاتحاد الاشتراكي، دون الاعتبار بالتاريخ وبمصير من سبقوهم إلى ما هم مقدمون عليه. مما يطرح أكثر من سؤال حول دوافعهم الحقيقية؛ الله وحده يعلم سرها وكنهها. لكن التاريخ لن يرحم أحدا.