لحسن أمقران / جديد انفو

كلما جلست للحظات أمام شاشة إحدى القنوات التلفزية الرسمية إلا وانتابني شعور الإحباط والتذمر وأنا أسمع بعض أشباه المثقفين من صحافيي هذه المنابر الإعلامية وهو يردد عبارة "المغرب العربي" ضدا على واقع شمال أفريقيا وكل معطياتها التاريخية والأنتروبولوجية، موقف لا يمكن إلا أن يصنف في خانة التعنت المرضي الموسوم بالجهل المقدّس، وهو سلوك عاد ليظهر بعد أن توارى لمدة غير طويلة بعد الدستور الجديد.

. إن ما يجب أن يدركه هؤلاء الصحافيون الذين أصبحوا أذرعا إعلامية لمنظّري الفكر العفلقيّ البعثيّ الناصريّ الأرسلانيّ أنه - رسميّا وأخلاقيا - لا يعقل أن توظف عبارة "المغرب العربي" نهائيا، فالقنوات الرسمية هي المدعوّة الأولى إلى احترام قوانين البلد تتقدمها أسمى هذه النصوص، والمملكة المغربية وانطلاقا من كون الدستور المغربي الجديد الذي تم إقراره سنة 2011 قد حذف عبارة "المغرب العربي"، مدعوة إلى تصحيح الوضع وإرغام المؤسسات الإعلامية عموما والرسمية على وجه الخصوص على الكف عن توظيف هذه العبارة الإقصائية، عبر مراسلة إدارات هذه المؤسسات بشكل رسمي وتعميم ذلك على كل الإعلاميين.

لن ننسى مبادرة وزير الخارجية السابق، الأستاذ سعد الدين العثماني المشهود له بالرصانة والموضوعية، حين "اقترح" على نظرائه المغاربيين استبدال العبارة المشؤومة بعبارة "المغرب الكبير" التي تنتصر للتنوع الذي يطبع هذه الربوع، وإذا كان الوزراء المذكورون قد واجهوا المقترح بغير قليل من الاندفاعية والتموقع الإيديولوجي، فإننا في المغرب مدعوون إلى الذود عن حقيقة المغرب الكبير المتنوع، بل ويفترض أن تعيد الدولة المغربية إعادة رفع الملتمس إلى أعضاء الاتحاد، قصد تغيير اسم وأرضية بناء هذا التكتل الإقليمي، وبث الروح فيه من جديد من خلال ضخ دماء جديدة تستجيب للتحولات الكبرى التي تفرضها الظرفية الحالية وتصاعد خطابات التشدد والتطرف.

وحتى ينال الملف ما يستحقه، يتعين على المجتمعين المدني والسياسي وكل فرد يدعي غيرته و تشبثه بهذا الوطن، وحرصه على التسامح والتعايش أن يتجاوزوا عهد المزاجية وتجاهل الانتماء المشترك الذي يجمعهم مع غيرهم من الأطياف الفكرية والإيديولوجية، ويكثفوا من جهودهم لفرض الكفّ عن توظيف هذه العبارة الإقصائية التي تعتبر مساسا أخلاقيا بحرمة التنوع الذي ما فتئنا نتغنى بكونه سمة شمال إفريقيا.

لقد كان الفكر العفلقيّ البعثيّ الناصريّ الأرسلانيّ حقيقة أكبر نقمة على شعوب شمال إفريقيا، والتي تميزت عبر التاريخ بخصوصيتها رغم أن النزر القليل من أبنائها المغرّر بهم لا يزالون يعيشون الوهم، مدافعين عن أطروحة فرّقت الناس عبر الأقطار عوض توحيدهم، أطروحة بئيسة تحكم على كل من يقف أمامها رافضا بالإعدام المادي والمعنوي. كم كنا ننتظر من هذه الأبواق المزعجة أن تكفّ عن عويلها، وتعتبر من دروس التطرف والإرهاب الذي يهدد الأوطان، لكنها لم تملّ بعد من توهّم مغرب "عربي"، وكم هو أنكى أن يُطلق العنان لهذه العبارة في إعلام رسمي وعمومي يجدر به أن يمثّل المغرب في تنوعه وغناه.

. لقد كان التطور الملحوظ في الوعي الشعبي بالشق الهوياتي وضرورة مراجعة الأوراق، مصدر قناعة مغربية بضرورة القطع مع الولاء الأعمى للإيديولوجية المشرقية البعثيّة المهترئة، لذلك أقدم الدستور المغربي على خطوات مقدامة وتاريخية، وهو "يعترف" بالتعدد والتنوع المغربي، ويعوض تسمية المغرب الكبير بالوصف الإقصائي لواقع شمال إفريقيا، متداركا بذلك أخطاء فادحة عمّرت طويلا.

كم هو مؤسف أن نقف مرّة أخرى على هول تجذر الشذوذ الفكري و تفشّيَ الدعارة الإيديولوجية في مجتمعنا ومؤسساته الرسمية، وإلا كيف نفسر إصرار قنواتنا الاعلامية وصحفييها على مغالطة نفسها ومعهم المغاربة، واختزال مصير شعوب المنطقة في الولاء و الطاعة لمرجعيات أضحت في خبر كان؟؟؟ إنها فوبيا قاتلة وخبيثة تستلزم العلاج النفسي الآني لمُنظريها قبل مُستهلكيها من المحسوبين على الإعلام.

يجب أن يدرك الجميع - وآن للمغرّر بهم أن يتداركوا - أن ضرورة بناء اتحاد شمال إفريقيا حتمية لا محيد عنها، ويدرك الجميع أن شمال إفريقيا لكل أبنائها بغض النظر عن أعراقهم، ألوانهم، ألسنتهم ومعتقداتهم، ولا يحق لأيّ كان أن يجبرنا على الإنصات والقبول بالفكر الإقصائي القوميّ الفاشيّ المعدي والذي أتت به العواصف العفلقية المشؤومة، لنقل وبكل صراحة إن الأوان قد آن إذا وأكثر من أي وقت مضى للقطع مع الأباطيل التي طالما عشنا فيها خضوعا لإرادة طغمة متجاوزة ومتقادمة، وبالتالي إعلان التصالح مع الذات، مع التاريخ، ومع واقع شمال إفريقيا الجديد وتاريخها وجغرافيتها.