بقلم: لحسن أمقران

لم يكن التوجس الذي عبرت عنه الفعاليات الأمازيغية بمختلف مشاربها بخصوص مستقبل الأمازيغية مع تنصيب حكومة ما بعد دستور 2011 محاسبة للنوايا بقدر ما كان نتيجة حتمية لعداء بيّن للحقوق الأمازيغية وللمواقف السلبية للحزب "الأغلبي" من القضية الأمازيغية، فالجميع يكاد يُجمِع أن التوجس منطقي ومبرر وكان في محلّه، وها هي الأمازيغية تعيش أحلك أيامها منذ الترسيم والدسترة موقوفي التنفيذ، واللذين غُلّا بقانون تنظيمي فرضته الأطراف نفسها التي تماطل اليوم في الإفراج عنه إشباعا منها لرغبة مرضية في الانتقام من الأمازيغية.

سياق هذا الكلام، الخرجة الإعلامية للسيد عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية على موقع هيسبريس، والذي تحاشى فيه تسمية الأشياء بمسمياتها واعتمد كعادته لغة الخشب وخطاب الدبلوماسية بإفراط كبير - كي لا يثير سخط بعض الجهات -  اللذيْن لم يعودا يقنعان أي مواطن مغربي يحمل همّ الأمازيغية. واحتراما لذكاء المغاربة سنتناول بعض النقاط التي جاء بها أستاذنا العميد، ليس من المنظور الحزبي الضيق الذي من شأنه أن يتحامل على هذا الحزب أو ذاك، ولا من باب العدمية الهدّامة أوالتحامل المجاني على شخص الأستاذ بوكوس ، بل من زاوية نقدية تصحيحية توضيحية توثِر الواضح عن المرموز.

تحدّث أستاذنا الجليل عن أوضاع اللغة الأمازيغية، واعتبر أن هذه اللغة قد عرفت تطوّرا كبيرا من حيث واقعها السوسيو- ثقافي من حيث وظائفها واستعمالاتها في المجتمع والمؤسسات، كما تحدّث عن إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية والتعليمية، وكذلك في المشهد الإعلامي ليُختم بتتويج هذه السيرورة بترسيم الأمازيغية في دستور 2011. كلام معسول لو كان واقعا، فعودة إلى وظائف اللغة المذكورة واستعمالاتها في المجتمع، صحيح أن هناك تحسّنا مردّه المجهودات الكبيرة للنسيج الجمعوي الأمازيغي الجادّ الذي لا يزال يستميت من أجل إحياء اللغة وتنمية الوعي الأمازيغي عبر إخراجه من دائرة النخبة إلى جميع فئات المجتمع المغربي الذي نخرته الإيديولوجيات المستوردة، أما عن المؤسسات التي تحدّث عنها عميد المعهد الملكي، فنزعم أنه درّ للرماد في الأعين، فالمؤسسات تنكرّت للغة الأمازيغية خصوصا بعد دستور 2011 الذي يفترض أن يسرّع وتيرة مصالحة الدولة المغربية مع الأمازيغية، وله أن يطالع الصحف والمواقع للوقوف على حقائق نشك في كونه يجهلها.

من جهة أخرى تناول الأستاذ مسألة إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية والتعليمية بمنطق التنويه، لكن غفل أو تغافل عن واقع مرّ مرير تعيشه الأمازيغية في المدارس المغربية، فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن نقبل - من شخصه  بالخصوص - هذه الشهادة وهو الذي يدرك أكثر من غيره أن الأمازيغية تستباح أمام أبنائها وتغتصبها الأرقام والإحصائيات المشكوك في أمرها، هذا وقد تفضل أستاذنا عارضا إحصائياتٍ مهينة تقدّمها الوزارة نفسها، بل وسار على نهج الوزارة مدّعيا أن إكراه الموارد البشرية هو المشكل الوحيد، وهنا نهمس في أذن العميد المحترم أن نسبة أساتذة التعليم الابتدائي من حاملي إجازة الدراسات الجامعية والمعمّقة في اللغة والثقافة الأمازيغيتين جد مهمة، فماذا فعلت الوزارة للاستفادة من خبرة هؤلاء وكفاءتهم؟ من جهة أخرى، لا يجب أن ننسى أن هناك من اجتهد في تدريس اللغة الأمازيغية منذ عقد ونيف، ولو كانت النوايا حسنة، لأخضِع هؤلاء لامتحان تَخرّج للتأكد من كفاءتهم، وفوق كل هذا وذاك، ما هي آفاق الطلبة خريجي الدراسات الأمازيغية إذا صُدّت أمامهم أبواب التعليم؟ وفي الأخير، نسائل عميدنا الذي تفادى الإشارة إلى وجود جيوب مقاومة و يريد الدفاع عن "مكسب" الأمازيغية في التعليم، هل احترمت المبادئ الأربعة التي تمّ الاتفاق حولها حين تقررّ "إدماج" اللغة الأمازيغية في المؤسسات التربوية؟ هل أنتم راضون عمّا انتهت إليه الأمازيغية في مدارسنا؟؟ ما الذي حققته الأمازيغية بإيجابيتكم أستاذنا الجليل؟؟

في مسألة المشهد الإعلامي الذي نال حظه من تنويه السيد العميد، يجب التذكير أن الأمازيغية لا تزال ضحية المزاجية والاستهتار في جل القنوات العمومية، وهنا نستحضر دفاتر التحملات ومدى التزام هذه القنوات بما تقتضيه هذه الدفاتر، كما نورد تغييب الأمازيغية بشكل كلي في عدد من القنوات، والتعامل الفلكلوري مع الجوهر الأمازيغي في أغلبها، في المحور نفسه، تحدث عميد المعهد عن كون هذا الأخير يقوم بالتتبع ورصد الاختلالات، وما مآل ما يخلص إليه المعهد إذا لم يتمكن من عرضه على "الهاكا"؟؟ هنا نستوقف مرّة أخرى السيد العميد ومعه الرأي العام المغربي متسائلين: ألم نخطئ عندما أسرنا الأمازيغية في "غيتو" يسمى القناة الثامنة مانحين الفرصة للقنوات الأخرى للتنكر لواجبها تجاه الأمازيغية؟؟

في النقطة الثالثة، لقد استبشرنا خيرا معكم أستاذنا بتتويج هذه السيرورة بترسيم الأمازيغية في دستور 2011، لكننا لم نعد كذلك اليوم بعد أن تأكدنا بما لا يدع مجالا للشك أن جيوب المقاومة أقوى بكثير من أصحاب النوايا الحسنة، وكان جديرا بكم توجيه الدعوة إلى من يسوّف في الإفراج عن القانون التنظيمي كي يكفّ عن المماطلة بدل أن توظّفوا جملتكم التي استهلّت بأداة شرطية.

الأستاذ من جهة أخرى تفادى إعطاء تفسير - ولو كان شخصيا - لمسألة التأخير  لكنه تحدث عن مؤشرات حول "عزم" بعض الأطر وخاصة منهم اصحاب القرار في قطاع التربية والتكوين، وبعض المؤسسات الثقافية والاجتماعية القيام بالمتعيّن في القطاعات التي يشرفون عليها بعد صدور القانون "السحري"، وأين هي "القوانين" التي بموجبها تم الإدماج الذي تحدثت عنه أعلاه أستاذنا؟؟ هل صدر ما ينسخها أم أن هناك من يركب على تماطل الجهات المعنية لوأد الأمازيغية قبل ظهور تلك القوانين؟؟ ولسنا ندري ما قصده أستاذنا بلفظة "بعض"، هل يعني هذا أن هناك من لن يقوم بالمتعيّن ولو أصْدِر القانون التنظيمي؟؟

عميد المؤسسة تناول في معرض حديثه عن  دور المعهد في صياغة هذه القوانين المنظمة للأمازيغية عن الصفة الاستشارية لا التقريرية للمعهد وهو ما لا يتجادل حوله لبيبان، إلا أنه وحسب فهمنا المتواضع، فقد يكون أستاذنا قد تطاول على صلاحيات المعهد عندما استبق الأحداث فتقدم برأي حول ترسيم اللغة الأمازيغية سنة 2005، وفي سنة 2008 حين بادر مجلس إدارة المعهد إلى مطالبة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالنظر في تقصير القناتين الأولى والثانية في إعمال بنود دفاتر التحمّلات المبرمة مع الوزارة الوصية، ومرّة أخرى في 2012 يوم بادرت المؤسسة ذاتها بمكاتبة رئاسة الحكومة بخصوص رؤيتها حول موضوع تفعيل الفصل الخامس من الدستور، وخاصة البندين المتعلقين بالأمازيغية.

إذا كان عميدنا يظن أن سقف الأمازيغية في مجرّد تسمية المؤسسات باللغة الأمازيغية وبحرف تيفيناغ فهو واهم، الأمازيغ يريدون إنصافا حقيقيا لأمازيغيتهم في إطار عدالة لغوية وثقافية حقيقية وفعلية، فلتدركوا أستاذنا أن الأمازيغية أكبر من المصلحة الاقتصادية التي تحدثتم عنها وشممنا منها كونها ترتبط بمواطن الجبال وتخوم الصحراء ومنتوجه السياحي، الأمازيغية قضية هوياتية، حضارية، حقوقية، ثقافية، سياسية، اجتماعية، ولا يستقيم تسليعها بهذا الشكل السيء، نذكر عميدنا أن الوزير "محمد الوفا" كان له الفضل في إدماج الترجمة الأمازيغية في أسماء المؤسسات التربوية وعنه أخذ من أخذ. وعودة إلى المعهد يمكننا أن ندل العميد على ترجمات نستحيي من ذكرها تمّت وعندما نبّهنا إلى فظاعتها وجدناها وردت عن طريق البريد الالكتروني للمعهد...

في معرض حديثه عن مسألة الحرف، تحاشى الأستاذ التذكير بالتفاصيل الحقيقية لتاريخ سيرورة اختيار الحرف من خلال التذكير بنتيجة التصويت الأول ثم ما وقع بعده من مساع أيديولوجية تريد فرض تعنّتها، لينتهي الأمر بصيغة توفيقية غلّبت جبر الخواطر على العلمية والموضوعية، وهنا سرد السيد العميد من ضمن المشاكل التي يطرحها استعمال الحرف الآرامي مسألة الحركات، ووجود بعض الأصوات في النظام الصوتي للأمازيغية الذي لا مقابل له في الحرف الآرامي، وقال إن الأمر نفسه يسري على الحرف اللاتيني، وهو ادّعاء لا ننتظره من أستاذ للسانيات، يُفنده وضع المؤسسة لخط يعرف بـ Tifinagh ircam latin  

في النقطة الأخيرة، تحدث العميد عن مسألة الصراعات الفكرية والتدافع المرجعي، وهنا أيضا اختار أستاذنا مرّة أخرى لغة الدبلوماسية المبالغ فيها عندما تحدث عن الفكر الذي يقدم الأمازيغية كبعد حصري ووحيد للهوية الوطنية، ووصفه ب"الفكر الأحادي المطلق"، وهنا لا ضير أن نذكر أن هوية الأوطان لا تقوم على الأديان ولا الأنساب ولا الألسن، لكون هذه العناصر الثلاثة تدخل في خانة المتغير منها، ليبقى الثابت الوحيد هو محدد الأرض، والأرض الشمال- إفريقية أمازيغية منذ عشرات القرون، ولم يثبت أركيولوجيا أو أنتروبولوجيا أن استوطنها غير الأمازيغ، والحال هذه، فهوية المغرب هوية أمازيغية ذات روافد ثقافية متعددة، والأرض المغربية تتنوع فيها الأنساب والألسن والألوان في غنى وتناغم يجب أن نحفظه ونفتخر به. فمن الخطأ الجسيم اعتبار الأمازيغية –L’Amazighité- مكونا كما باقي الثقافات الوافدة الأخرى بل هي الجوهر بعينه وهي الهوية الأم لبلدان شمال إفريقيا بلغة العلم لا بخطاب العاطفة ولا من منطلق التدافع الإيديولوجي. فاللغات المرسّمة لا تصنع هوية الشعوب والدول، فالدول الإفريقية والأمركية الجنوبية وبعض الدول الأسيوية التي اعتمدت اللغتين الفرنسية والإنجليزية لا تقدّم هويتها على أساس أنها شعوب فرنسية أو إنجليزية، بل تحتفظ بهويتها الأصل المستمدة من الأرض.  ويجدر بالمعهد أن يصالح المغاربة مع ذواتهم بعدما نال منهم المسخ الهوياتي، ويقدّم المادة العلمية لإقناع من يساوره الشك في هوية هذه الأرض عوض محاولة التهويل من معارك وهمية تخوضها الأسماء المستعارة على المواقع الاجتماعية، وهذه الأمور لا نظن أستاذنا غافلا عنها اللهمّ إذا اختار أن يفعل.

نختم هذه القراءة السريعة بالشكر والتنويه بما بذله أستاذنا من مجهود في الدراسات اللسانية وخصوصا في شقها الأمازيغي ولايزال، فسيبقى الأستاذ "أحمد بوكوس" نبراسا علميا في جميع الأحوال مهما كانت اجتهاداته، فالمجتهد يخطئ ويصيب، ومن في الحلبة ليس كمن يتفرج من علٍ، ولا نريد أن يفهم مما قلناه إننا نعادي الأستاذ لشخصه، بل إننا ننتقد سياسته وتدبيره لمؤسسة نريدها أن تكون محاميا ناجحا – إلى جانب المحامين الآخرين المشكلين لجسم الحركة الأمازيغية - لقضية مشروعة اسمها الأمازيغية وليس بوقا يبرر تلكؤ الحكومة وتراجعاتها عن الأمازيغية.