بقلم: لحسن أمقران.

في ظل سياسة التماطل المتعمّد والتسويف المتكرر اللذين تجابه بهما الحكومة الحالية الإفراج عن القانون التنظيمي لتفعيل رسمية الأمازيغية، حقّ لنا أن نقول إن ظنوننا وتوجساتنا بشأن مستقبل الأمازيغية في مؤسسات الدولة في ظل حكومة يقودها حزب “أغلبي” يعادي الأمازيغية كانت في محلّها، وحقّ لنا أيضا أن نقول إن شعارات أحزاب من الأغلبية الحكومية طالما ظنّت نفسها محاميا تاريخيا للأمازيغية مجرد شعارات للاستهلاك السياسوي، وحق لنا أيضا أن نكفر بكل الدكاكين السياسية التي لا يهمّها من السياسة غير طموحها الشخصي في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا غير.

بعد دستور خلناه جاء لينصف الأمازيغية بعد طول تهميش وإقبار وطمس، يسجل النكوص والتلكّؤ، وتتوالى التراجعات بشكل مفضوح، تراجعات عن “مكتسبات” انتزعت بفعل نضال سلمي مستميت تغذيه الشرعية التاريخية وحقوق الإنسان وعزيمة الأمازيغ، تراجعات تمّت وتتمّ تحت ذريعة عدم صدور القانون المذكور، والذي كبّلت به جيوب مقاومة التغيير مستقبل الأمازيغية الذي لم يعد يبعث على الاطمئنان. وبحكم كون معطى الزمن في غير صالح الأمازيغية، يتعين علينا – نحن الفاعلين الأمازيغ – الكف عن الاكتفاء بالشكوى من غياب أو تغييب الأمازيغية في برامج عمل الحكومة، والانتقال إلى أجرأة شعبية لرسمية اللغة الأمازيغية عبر أخذ زمام المبادرة وفتح أبواب الاجتهاد العملي لإنصاف الأمازيغية وإحقاق حقوق المواطن المغربي المكلوم بشكل آني ومسؤول، دون نسيان تحميل الدولة مسؤولياتها ومسؤولية الإخلال بها.

إن التنصيص على رسمية اللغة الأمازيغية في الدستور المغربي يظل المرجعية السياسية والدعامة القانونية التي تخول للمغاربة المبادرة بالتفعيل الشعبي لرسمية اللغة الأمازيغية، وفي إطار ما نصطلح عليه في هذا المقام بـ”النضال الذكي” الذي يوَفر الجهد والوقت، ويغني عن إهدار الوقت في الشكوى والتباكي، نورد فيما يلي بعض الترتيبات البسيطة التي من شأنها فرض الأمازيغية بشكل سلس بعيدا بعض أنواع المواجهات المذمومة وغير المرغوب فيها سواء مع المواطن المغرر به والمستلب ممن تجرعوا فوبيا الأمازيغية لسبب من الأسباب، أو مع الجهات الرسمية التي لا شك أن من رجالاتها من لم يتخلّص بعد من النظرة المخزنية “المرسمة” إلى الأمازيغية في سياق تاريخي أضحى متجاوزا، ولم يستطع مواكبة التغيير الذي شاب بعض جوانب التعاطي الرسمي مع بعض القضايا.

إن إعمال التفكير المبادر والتنزيل الشعبي لرسمية الأمازيغية ليس بديلا عن مأسسة الأمازيغية، وليست الخطوة من باب تبرئة ذمّة الدولة المغربية من مسؤولياتها التاريخية تجاه الأمازيغية، ولا إعفاء لأصحاب الكراسي المريحة والقاعات المكيفة من مسؤولياتهم،  بل إن الرّاهنية والإكراه الزمني كما أسلفنا، والخروج بالأمازيغية من المزايدات السياسية، وإثبات التمسّك والتشبث الشعبيين بالهوية الأمازيغية وشرعية التمتع بالحقوق المدنية وغيرها، هي مبرّراتنا في هذا الاتجاه.

صحيح أن خصوم – حتى لا نقول أعداء – القضية الأمازيغية لا يتقنون غير لغة التخوين وفي أحسن الأحوال التنكّر، وهو ما ولّد لدى بعض الفئات الأمازيغية ردود فعل تتراوح بين التعصب كجواب للتنكّر، والتطرّف كردّ على التخوين، ولكل كيل كيدٍ خصيم مكياله وكيّاله. والحقيقة أن ذلك لم يعد في صالح الأمازيغية، فالحركة الأمازيغية مدعوّة إلى التركيز على صناعة الرأي والمواقف بالقيم المثلى والأخلاق الراقية، والإعراض عن كل الاستفزازات التي تشتت التركيز وتخلق المعارك الجانبية، الحركة مدعوة إلى التحلّي بالطموح والتفاؤل والعزيمة، إلى التسلح بالجد والاجتهاد والاستماتة، ويجب على الحركة أن تكون صادقة مع ذاتها قبل غيرها وتجسد مبادئها خصوصا الاختلاف والنسبية وقبول الرأي الآخر.

يجب علينا أن نحرص على السلم الاجتماعي واللّحمة المغربية، وعدم السقوط في فخ فكر القومية الضيّق والبغيض، فكلنا أمازيغ – بحكم انتمائنا إلى هذه الأرض الأمازيغية –  بدرجات مختلفة من الاستلاب من جهة، ومن جهة أخرى بدرجات متفاوتة من الوعي والحس، وهذان الأخيران هما ما يجب العمل على إذكائهما في نفوس المغاربة، نحن لسنا لا قومية، لا أقلية، لا طائفة ولا خصوصية جهوية وبالتالي لا يجب أن نتخندق أو نقبل بخندقتنا، فالأرض المغربية برمّتها تتحدث الأمازيغية، وقوّتنا أننا لا نخضع لا للشرق ولا للغرب وإنما لأمنا أرض “مراكش” الشمال-إفريقية.

في النسق الرمزي للفكر الاستراتيجي نجد أن العالم يعرف نموذجين أساسيين، النموذج الغربي ورأسه الولايات المتحدة، ثم النموذج الشرقي وتعكسه الصين، فأما الأول والمعروف بـ “اليانغ” ظاهره النار والنور وباطنه البساطة، فسلاحه الزمن والمواجهة، وكثيرا ما يتلقى صفعات وإخفاقات وخيبات أمل، أما الثاني فيعرف بـ “الين”، وظاهره الماء والظل لكن باطنه التعقيد، يعتمد الإقناع والليونة وكثيرا ما ينجح في مهامه ولو استغرق زمنا طويلا. بمعنى آخر، يتعين علينا السير على النسق الاستراتيجي الصيني الذي يعتمد الليونة والمرونة التي تحقق الإقناع وبالتالي بلوغ الأهداف بأقل “الخسائر” وبدون مفاجآت.

في مستوى أول، يجب أن نكون عمليين لا ظواهر صوتية، فتفعيل الأمازيغية يبدأ من البيت، لذلك وجب علينا أن نوليها حقها في بيوتنا، فنعلمها لأبنائنا، ونغرس فيهم حبها ونربيهم على الافتخار بها، مع الانفتاح والاحترام الواجب للآخر، أن نسمّي أبناءنا بأسماء أمازيغية يدركون معانيها، أن نطلعهم على أمجاد أجدادهم وتاريخ وحضارة أسلافهم.

في مستوى ثان، يجب أن ندفع المواطنين إلى العمل الأفقي وتدشين ورش تنزيل رسمية اللغة الأمازيغية، فلم يعد هناك من مبرّر للتردد في جعل اللغة الأمازيغية تعتلي واجهات محلاتنا ومكاتبنا وغيرها، فهو حقّ أضحى دستوريا يجب ممارسته بكل وعي ومسؤولية، ومن المفروض تبني الخيار الاستراتيجي المبني على انتظار ثم اغتنام الفرصة، يجب أن ندرك أهمية هذا الورش خصوصا أنه يفتح الباب أمام الجميع لاكتشاف الأمازيغية، والنبش في امتداداتها التاريخية. يجب على النسيج الجمعوي الجادّ مراسلة رؤساء كل المرافق والمؤسسات العمومية كتابة وبشكل رسمي، دون تغييب معطى الودية والمرونة والحوار لتمكين الأمازيغية من أخذ نصيبها في الهوية البصرية المغربية، كما يتعين العمل أيضا كقوة اقتراحية من أجل تسمية الأزقة والشوارع وكذا الأحياء بأسماء أمازيغية تحفظ الذاكرة التاريخية للمغاربة، بتنسيق ذكي وتشاور فعّال وتعاون مثمر مع المنتخبين من جهة، والمنعشين العقاريين من جهة أخرى.

من جانب آخر، يجب على الحركة الأمازيغية العمل على إنصاف الأمازيغية، لغة وثقافة، في المهرجانات والتظاهرات الفنية والثقافية والفكرية، وليس ذلك يتطلب أكثر من القدرة على التواصل الفعّال الذي تغّذيه العزيمة القوية، يجب أن نتعوّد على المرافعة وفرض الخصوصية، لكن بكثير من الليونة والمرونة في التواصل مع القيّمين الذين يظلون في النهاية مواطنين لم يدركوا بعد حقيقة هذا الوطن، والتعامل معهم على أساس كونهم ضحايا فكر مستورد فرضته ظروف معينة، وليس بالنظر إليهم كجلادين متآمرين. من جهة أخرى تتعين المبادرة إلى تنظيم ملتقيات وتظاهرات ثقافية وفنية تثمّن الخصوصية الأمازيغية بعيدا عن التوظيف الفلكلوري أو الاستحضار الشكلي، وهو ما لا يستدعي أكثر من إعداد مشاريع بشكل متقن والمرافعة لدى الجهات المعنية.

في جانب آخر، وتشجيعا للكتابة والتأليف، يتعين التفكير في خلق مؤسسات تعنى بالطبع والنشر وفق مقاربة استثمارية-نضالية، تروم تشجيع الشباب على البحث والتنقيب عن مكنونات الأمازيغية التاريخية والحضارية واللغوية والثقافية، وكذا تحفيزهم على الإبداع الأدبي باللغة الأمازيغية، ثم تأسيس اتحادات وروابط تجمع هؤلاء وتشرك الجهات الوصية على الشأن العلمي والثقافي على وجه الإلزام.

من جهة أخرى يبقى الإعلام من بين الأوراش الأساسية للتنزيل الشعبي لرسمية الأمازيغية، ففي ظل الحصار المبطّن والمهادنة الموسمية، يتعين على الحركة الأمازيغية الإسراع بالتأسيس لإعلام بديل يملأ الفراغ في حقل الإعلام الأمازيغي والذي أفرزته الإكراهات الذاتية والموضوعية، إعلام يستفيد مما توفره الشبكة الدولية (الأنترنيت) عبر بناء مواقع إلكترونية مؤسسة وقوية تعتمد المهنية والانخراط الفعلي والمسؤول في خدمة القضية الأمازيغية، وإطلاق إذاعات بل وقنوات تلفزيونية إلكترونية تروج الخطاب الأمازيغي، وتعرف بمكنونات التاريخ والحضارة الأمازيغيين.

أما في شق التعليم وبشكل مواز، على الجمعيات والمنظمات الأمازيغية تدريس الامازيغية وتشجيع الإقبال عليها، في إطار تعليم “شعبي” – في مقابل التعليم النظامي –  وأن تتحلى بروح المبادرة وتدرك حجم التحديات التي تواجه الأمازيغية في علاقتها مع الطفل المغربي ومع إكراه الزمن. إن المخيمات الصيفية والربيعية والمقامات اللغوية أنشطة تتيحها وزارة الشباب للنسيج الجمعوي، ويتعين أن تستفيد هذه الإطارات من مثل هذه الفرص لصالح الأمازيغية وتدريسها، كما يفترض أن توفر الإطارات الأمازيغية  – ولو أسبوعيا – حصصا في اللغة الأمازيغية لفائدة الأطفال الذين يفطمون عنها باستمرار خصوصا في المناطق غير الناطقة، وذلك لربطهم وجدانيا بهويتهم وتربيتهم على الاعتزاز بها. كما يتعين على كل أستاذ استفاد من “تكوين” في اللغة الأمازيغية تدريسها بشكل منتظم في المدرسة مع ضرورة التخلي عن عقلية انتظار زلال التشجيع والتنويه من طرف أيّ أحد كان أو من أية جهة في تلك الحال، لأن ذلك يدخل في إطار الواجب المقدس، وكذا التخلص من عقلية توجس شواظ التنبيه والتوبيخ من طرف المؤطرين الإداريين والتربويين والمسؤولين الآخرين لأن ذلك يدخل في إطار الإخلال بالواجب والمسؤولية، لكون تدريس الأمازيغية هي حاجة حيوية وانتصار لروح العقل والمنطق ومصالحة مع الذات وإحقاق وإنصاف لها.

إن سياسة التماطل وسلاح الانتظارية لن يصمدا لو تملّكنا الشجاعة والعزيمة الكافيتين لتنزيل رسمية اللغة الأمازيغية شعبيا، وبالتالي نرى من المجدي أن نجبر الحكومة ومن يجري في فلكها على الوفاء بالتزاماتها الدستورية. لقد آن الأوان أن نبادر ونشقّ الطريق، ومن المفروض أن ندشّن هذا الورش في أسرع الآجال بغير قليل من الإستراتيجية والدقة وخصوصا الرّصانة، فلا حزن ولا خوف من لومة لائم مع وجود إطار مرجعي قانوني يتمثل في الدستور المغربي، لأن ما دونه يبقى أوراقا سياسية تخضع لمنطق التوازنات وتوظف بشكل ميكيافيلي خبيث. حريّ بنا أن نتكوّن في تقنيات التواصل، جدير بنا مدّ الجسور والعمل وفق مقاربة تشاركية مع كل الديمقراطيين، جدير بنا الإيمان بمبدإ التدرّج وبلورته، وعندما نتملّك هذه القدرات سنكون في مستوى كل التحديات بلا شك.

في الختام، إننا مدعوون إلى خلق التوازن بين الانتماء الثقافي والهوياتي والخصوصية من جهة، والانتماء إلى الإنسانية من جهة ثانية بشكل يجعلنا نتفاعل مع الغير دون انصهار، كما يتعين علينا التوفيق بين البعد العقلاني والبعد الأخلاقي/الروحي في فعلنا حتى نكسب كل مواردنا البشرية على اختلاف مشاربها، فالفكر العقلاني المتحجر لا يختلف في شيء عن الفكر العاطفي الذي يتمطى ويتماهى مع النزوة والرغبة، ليظل خيار الفكر العقلاني المنفتح والمتفاعِل السبيل الأوحد لربح الرهان .

(*): هذا المقال هو نص المداخلة التي شاركنا بها في ندوة حول التفعيل الشعبي لرسمية الأمازيغية والتي نظمتها جمعية أفريكا لحقوق الانسان ببلدية كلميمة بتعاون مع التجمع العالمي الأمازيغي.