بقلم: لحسن أمقران.

قد لا يختلف المتتبعون للشأن الأمازيغي حول كون فترة "ما بعد المصالحة" الشكلية للدولة مع الأمازيغية والتي دشّنها تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ أربعة عشر سنة من اليوم أشد وطئا وأكثر مساسا بجوهر النضال الذي راكمته الحركة الأمازيغية منذ عقود عديدة. فمنذ البدايات الأولى نجحت فكرة تأسيس المعهد في بحبحة الصوت الأمازيغي الذي طالما كان مدوّيا يحسب له ألف حساب – خصوصا خلال العقد الذي سبق تاريخ التأسيس-، حيث بدأت الهوة تتسع وفرص التنسيق تنفلت تباعا من بين أيادي الفاعلين الأمازيغ.

انتظرنا أن يبرهن الواقع أن تأسيس المعهد كان فعلا اللبنة الأولى في مسلسل إنصاف الأمازيغية، تفاءلنا خيرا طيلة كل هذه المدّة وأصررنا على أن المستقبل سيكون زاهرا، إلا أن المعطيات تؤكد أن المؤسسة المعنية أخذت منا أكثر مما أعطت -رغم أهميته كمّا وكيفا-، إن الجهات الرسمية بالمغرب وهي تستقبل السابع عشر من أكتوبر من كل سنة –تاريخ التأسيس- على إيقاع الإحتفال والإحتفاء والتكريم وأخذ الصور التذكارية بمبنى المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لا يجب أن تنسيها أو تحجب عنها تلك الصور الوردية - بأي حال من الأحوال- الصورة القاتمة لواقع الأمازيغية، فوضع هذه الأخيرة  كان كارثيا إلا أنه ازداد سوءا مع دسترتها.

لقد أصبح ترسيم اللغة الأمازيغية يدعونا إلى التوجس من حقيقة النوايا بخصوص التزامات الدولة وتعهداتها بخصوص هذا الملف الحساس، فإذا كان التطاول على أمازيغية المغرب متجذرا في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال الشكلي، فإن هذا التطاول تضاعفت حدّته وتجسدّت مظاهره بشكل فظيع، لتصل ذروة الاحتقار والاستصغار مداها بعد الدسترة الموقوفة التنفيذ.

على أي، يبقى ما قيل سطورا بين قوسين فتحناهما توطئة للتأمل في ذكرى تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والذي سيكون موضوعنا الأساس في هذا المقام بالنظر إلى العلاقة التفاعلية القائمة بين الواقع المزري للأمازيغية بعد "المصالحة" الظاهرية، وخصوصا بعد دسترتها المكبّلة في شتى القطاعات والمجالات، وهنا يطرح وضع الأمازيغية في التعليم والإعلام وغيرهما من القطاعات الحيوية أكثر من علامة استفهام، علاوة على التلكؤ الرسمي والتملص الفاضح من تنزيل مقتضيات الفصل الخامس من الدستور المغربي والإفراج عن القانون التنظيمي لتفعيل رسمية الأمازيغية.

لابد أن نذكر بداية أن الأمازيغية شهدت تراجعا مهولا في النقاش العمومي المغربي، ذلك أن هذا النقاش في المجتمع المغربي  ما يكون مواكبة لحظية وموسمية للخطب الملكية، وتظل راهنية المواضيع وأهميتها بقدر تعاطي الدوائر العليا معها، مما ينمّ عن سيادة ثقافة الاستهلاك وغياب الفكر الابتكاري الخلاق الذي من شأنه أن يناقش ويجادل، بغية تصحيح الأوضاع.

لقد كانت الأمازيغية في فترة معيّنة "موضوع الساعة"، اجتاحت كل المجالس الفكرية والسياسية والثقافية، لينتهي بها الأمر في دائرة النسيان كغيرها من المشاريع الكبرى التي بقيت مجرد شعارات لا تخرج عن دائرة الإستهلاك الإعلامي المناسباتي والرخيص. والملف الأمازيغي مثال حي لهذه الملفات التي قذف بها في سلة مهملات الدولة التي تؤثر بشكل مباشر على اختيارات واهتمامات النخبة المغربية.

إذا لم تكن السلطات التربوية المغربية جدية يوما مع قضية تدريس اللغة الأمازيغية منذ "إدماجها" في المدرسة العمومية سنة 2003، فقد ظلت هذه السلطات تتناول الملف بغير قليل من التحايل والتسويف تفاديا لتحمل المسؤولية في ملف يعتبر "ملغوما" في نظر المسؤولين المغاربة على اختلاف سلالمهم ومجال اشتغالهم، وهو ما يفسر بتعمّد الدولة المغربية نهج الغموض في تعاطيها مع الملف في شتى القطاعات.

بعد الدسترة الشكلية والمقيّدة، تحطمت رتابة الوضع بعد إقدام سلطات تربوية إقليمية وجهوية على إنهاء تدريس اللغة الأمازيغية في بعض مؤسساتها، وهو اختيار زكّاه ولو بشكل ضمني  خروج وزير التربية الوطنية بتصريح علني خلال سنة  2014 مفاده كون دسترة اللغة الأمازيغية لا يعني بالضرورة تدريسها، إنه التصريح الذي قطع الشك باليقين، وتبين أن التراجع عن اللغة الأمازيغية في المؤسسة التربوية لم يعد إجتهادا شخصيا لنواب إقليميين أو مدراء أكاديميات، بل سياسة واختيارا جديدا لوزارة التربية الوطنية تفننت في تغليفه بغير قليل من الدهاء.

تعرض أساتذة اللغة الأمازيغية لشتى أنواع "الحرب النفسية" من جانب بعض المديرين والنواب الإقلييين، علاوة على إنهاء تكليف الأساتذة بتدريس اللغة الأمازيغية . بعد هذه الهزات العنيفة التي مست واقع اللغة الأمازيغية المهترئ أصلا بالمدرسة المغربية، ولم يستطع النسيج الجمعوي الأمازيغي تغيير شيء مما يقع رغم بيانات التنديد والشجب التي لم تعد ذات جدوى، وكانت النتائج لتكون أحسن لو تكتلت الفعاليات الأمازيغية وغلبت مصلحة لغتها على بعض الحسابات الجانبية.

لقد كان وضع اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية لما بعد الترسيم أسوء بكثير مما كانت عليه من قبل، وإن البعض يعتقد أن الفشل الدريع لتدريس الأمازيغية، هو النتيجة الحتمية ل"الإدماج" المتسرع لها. إن القيمين على المعهد الملكي مدعوون إلى اغتنام فرصة تسليط الأضواء على حفل التكريم وتوزيع الجوائز للفت الإنتباه الى ما يحاك ضد اللغة الأمازيغية في السر والعلن، بدل ترديد موّال "التفاؤل" و"المستقبل الزاهر" الذي تؤكد المعطيات أن التغنّي  به في ظل هذه التطورات ضرب من ضروب الغباء، أو شهادة مؤدى عنها لتمويه عامّة المغاربة.

 

(يتبع...)