محسن الاكرمين

عقدت العزم على الرحيل، وانتهى لقائي الأول بلالة الشريفة بالدعاء لي بالرزق المستور، والتمكين على ذاتي بالرضى، وبمحو تموجات أزمتي الذاتية بالقدرة على امتلاك الحلول وحفظ الذاكرة الجميلة ... كنت لا تسمع مني إلا قول آمين ... آمين... حتى ظن الناس أن الشريفة من ذوي أصولي الأقرب ، وبدؤوا بالدعاء لي ، برهة خفت  من أن تتحول لحظة الدعاء والفاتحة  إلى حلقة بباب الشيخ الهادي بنعيسى، ودراهم قتل الحلاج تتساقط علينا ... الآن أصبحت أقطع نقط خط مستقيم بالتوالي من الباب الجديد  إلى زمرة كثافة التسوق السكاكين  ، أصبح شيئا ما الرضا يركب نفسي الداخلية و يغطي مساحة ملامح وجهي الخارجية ...

هنا عاودني العود إلى التفكير الداخلي، من خلال تناهي صورة أمامي هي انعكاسية لنوارة. أصبحت حلول الصورة  يتقلب بين الخيال والواقع ، فيما أشتم نسيم عطرها  الفواح الآتي عبر أزقة مدينة تضيق وتتسع لساكنها ، هنا لبسني حنين إلى الماضي وتأثيث سيري بالمونولوج الداخلي،  هناك أصبحت نوارة تسكن دواخلي بالرسم والسر بمسلك " السكاكين " التجاري .

لم أكن أعرف حين ذاك أن الانتصار على الإحساس ما هو إلا معاكسة للتيار ، لم أدر يوما أن ذات العيون العسلية لها مضغة حياة في قلبي وفؤادي . لما الإقرار العلني  ولو لذاتي وليس لغيري بسري ... فكرت في الأمر ألف مرة ونزعت ود الحب عن قلبي وألقيت به في أسناد المعزة  والإخلاص . لا أستطيع اليوم ولا غدا البوح بسري لنوارة ، فكم أنا اليوم موثوق بوثاق عذرية حب لا وطن له ولا عنوان .

وأنا أمشي في كل يوم أقف دوما على نحل الروابي يلثم بالتقبيل ركوعا طل الصبح  من زهرة رحيقها متجدد العطاء . نوارة تتفتح من الصبح إلى المساء... هي ذي السيدة التي أحكي لكم عنها ، لا أتذكر معرفة اليوم الذي نظرت إلى عيونها بالتأريخ والتوقيت ، فكل الأيام لها عندي صورة مطرزة في خيالي، أنسجه وأعلقه على جدار غرفتي بتساو أركانها ومساحتها ... لكن كان ذاك بعثة انقلاب لكيان الحاكي فهو العمر والأمل والسعد ... مسمع دوس القدم تسبق قدومها وخفته ترسل رنة إن لم تكن من الموسيقى فهي من انسياب المياه وخرير شلالاته ... لا عليكم فقد أثقل عليكم بالحكي والتوصيف التقريبي ،ورغم ذلك فلن أوفيها حقها بتمام نسج ورسم الصورة لموناليزا نوارة. لا عليكم قد أسبقكم في الحكي عنها قبل لقاء تقايس الأبدان ، لكني أحس أن خيوط قصتي تستوفي اهتمامكم بالبحث عن حدث اللقاء الثاني.

الآن وصلت وقبل وصولها تصل نسائم العطر المميز ... الآن أعرف نوع عطرها الشاعري بالتكرار،  وإن كان القول أصدق فقد سكن أنفي بالتمام ...أعرف أن اللوم يسبقني في كتاباتي وضميري يعذبني ...أعرف أن منها وهي بالأساس مقبول ...أعرف أن الكتابة ما هي إلا تعبير وصدق بمعزة من أحتفي بها ولو بالتفكير السردي والحكي المباح  ... فمن تحية أولية إلى ابتسامة طفولية لا تفارق ملمح خدودها  ... إنها القادمة وكفى ...نوارة.

 حين جلست على عرش تفكيري وخيالي ، رأيت الخوف يسكن عينيها ...لحد الآن لم تبح بكلمة لي إلا من تأمل شد المكان والحضور إليها وملأ المجلس طاعة وتنويرا ... لكني لحد الساعة لم أعرف إحساسا أخرجني يوما من تخوفاتي الدفينة .... ما أصعب أن تعز امرأة ليس لها عنوان .... إنه الخوف القادم بكسر الوجدان الداخلي عنوة ... ما أسوأ أن ترجع يوماً مهزوماً مكسور الوجدان...

الآن الصورة تلفني وحدي بالحكي عن الهيفاء ذات الصورة النابضة بالحركة ... صورة مؤطرة بالحفظ والصون ... الآن أخرجكم جميعا من دواخل شعوري وألتف بكم إلى الماضي الذي ماانفك يمضي ... قصتي لم تكن من وقع الوجود الحقيقي ... قصتي لا تنتمي إلى بكاء الأطلال ، لكنها هي كشف للحلول بين الذات المحبة والحبيب . بدايتها كانت بمدينة لا أعرف ما اسمها إلا رمزا رقميا لمسقط رأسي...بمكان حاطته أفول من المارة سعيا بالتسوق والتبضع ... هنا المنشأ الافتراضي ... وسط اختلاط الأصوات وتداخلها بين من يبيع ويشتري ...زحام المكان أوقفنا جميعا عنوة ، تلك لحظة البداية الثانية . لأول مرة يرفع أسيف عيناه لمن تقابله في طريقه ، لكنه لو كان يعلم بقدوم شعاع ملمح نوارة لقرر منذ البدء الأول النظر إلى العيون والوجوه ... ابتسمت بارتباك بين الوضعية التقابلية التي وضعتنا فيه الحياة ، أهي قضاء وقدر ؟ أم هي صدفة الإجبار القدري التي لا تكرر نفسها  ...

التحرك موقوف التنفيذ لعدة لحظات، والعين بالعين في تبادل لأسئلة متنوعة دفينة طال أمدها ... أسئلة لا تحمل أية علامات استفهام ولا تعجب . أسئلة  تستلهم اللحظة في الوقت الحاضر وتستحضر الماضي بعزته وقوته ، أسئلة تسحبك بحنو نحو توليد الأحاسيس وابتهاج الشعور من دون أجوبة ولا تسويغ لنتائج تقايس أبداننا...

ارتباك حل بالفجأة السريعة وسحب التأمل اللحظي نحو التململ من المكان بفعل التدافع ...المساحة قلت بيننا وأصبحت قاب قوسين من التقايس البدني  ...ازدادت الأجساد حرارة واشتعل الوجه احمرارا وتصبب عرق الخجل الداخلي ...لحد تلك التواني المتوالية لم ينبش أحد منا ولو بكلمة واحدة ، لكن الخطاب الداخلي توسعت مساحته ، وأعترف بوضوحه لكم جميعا ، فهو كان شعورا يسحبني من محشر قوم القيامة إلى جنة الفردوس .

تحرك الطوفان البشري فيما نحن قياما لا ندر بأي اتجاه نسير ...هي ذي البداية الأولية ، بداية حياة يركبها تيار إسم عيد لقاء الأبدان والأمكنة ، عيد لازال في يسكن دمي وفي قول لساني ... لحد الآن لازلت في تساؤل ما أجمل أن  يجرفك تيار نوارة ... إلى متى سأبقى وسط التيار ؟ ، بيني وبينكم طيلة حياتي تضيق نفسي من وقع مواضع وأمكنة الزحام،  إلا في تلك اللحظة فعوارض الزحام فارقتني واحتلت مكانها فرحة اللقاء والعيون ...

توالت الأيام والصورة اكتملت بالشد على إطارها المطرز ... لكن لحد اللحظة أحكي لكم عن نفسي، وعن دواخل إحساسي ...ولن أزيدكم منه إلا عفة القول والمعزة لها بالحب الصادق  ... انفض الجمع  بفسحة مساحة ، وعيوني تتبع نوارة في الاتجاه المعاكس ...فيما كانت آخر نظرة خاطفة عليها هي كسبي لابتسامة خفيفة منها رمتني بعيدا وسط تيار بشري جارف... 

رجعت لنفسي حين استوطن في تفكيري صورة من لم تنبش ولو بكلمة للمرة الثانية...أين أجدها ؟ في أي حي تسكن ؟ في أي مدينة تقيم ؟ أين هي الآن ؟ أسئلة بالإسترداف اللغوي التوالدي زادت الأمر تعقيدا وفسحت للمجال الافتراضي فسحة  بالحضور التخميني ...  حضور لم يغن ولن يسمن من فراق تقابل العيون وتقايس الأبدان ....

بتوالي أيام التفكير في نوارة ، اشتد الحنين إليها وتربى في داخلي معاودة الكرة بالتجربة المتتالية وبنفس المقاييس والأمكنة والأزمة .لكن هيهات ،هيهات أن تنجح التجربة مادامت نوارة اختفت دون كلام ... لا أخفيكم سرا فمن اليوم تعرية حياتي لن يغنيها بدا من دفء النسمة الهاربة بالاختفاء والانفلات الحسي .

حيلتي قلت بالاستنجاد إلى قاموس حيل أوفياء الحب العذري ، وأدعيتي في صلواتي لم تجديني نفعا في الاستخارة للوصول إلى نوارة  الفواحة ...اليوم قررت قراءة الفنجان ،عند عرافة شمطاء الشكل ،وفي وكر يفزع القلب من ولوجه والأنف من شم أبخرته وتعاويذه ، الجو الماطر والإعصار سكن المكان ، صوت الريح يحدث دويا وليس له تشبيه إلا الفزع الزائد من الحفرة السفلية للجن والعفاريت ... بعد طول انتظار وصلت إليها ويا ليتني ما حللت بمقامها المقزز... لم أنظر إلى وجهها من شدة رعبي،  ومن بؤس حيلتي الخرافية ، لم أتكلم لحظة أمام دخان بخور نارها . صاحت بقوة صوت مبحوح ... حينها تراجعت إلى الوراء بخطوات لم أحسب عددها ...  تساءلت لم صاحت بأعلى من الصوت وهي  تناديني أسيف.... وقالت  بحياتك يا ولدي امرأة سبحان المعبود ،فمها مرسوم كالعنقود ،ضحكتها أنغام ، وورود نوارة... لا أخفيكم لحظتها تذكرت قصيدة نزار قباني وابتسمت ، فالعرافة تحفظ القصيدة ... فيما عملت على مقاطعتها وتناولت مقاطع القصيدة وأتمتها عليها  ... إنها العرافة الحديثة والتي لا تسترق إلا سمع الحب وقطع  البحار (للحراكة ) ... من شدة اندهاشي سررت للأمر رغم أنها أيقنتني أن حبي مفقود ... مفقود يا ولدي .... لكل من يطرق بابها ...

انتهى أمري، وقررت أن لا ألازم التفكير في صورة نوارة ...حينها انشغلت بتوابع الحياة ... مرت الأيام والأشهر بأحلام لا ألوي القبض على شيء منها ... ساعات وأنا أرتقب التغيير ،لا شيء البتة ...اعتدت على الألم العاطفي ولم أبرحه البتة ... لكن الذي كان يسكن في دواخلي كإحساس وثوقي ، أن يوما سيأتي ، وستعاد لعبة لقاء الأبدان والأمكنة ، ولن تستطع نوارة من الهرب عن مرأى عيوني ...