ذ محسن الأكرمي

رن هاتف نوارة فأسرعت بالإجابة، إنها المرة الأولى التي تنتظر خطابا مغايرا عبر الهاتف . صوت قادم من بعيد، عرفته منذ الوهلة الأولى أنه أسيف الذي طال انتظار مكالمته. رجلاها لم تسعفها على دوام الوقوف، فهوت قعودا على كرسي باحتلال نصف مساحته المائلة. نعم سيدي، من معي... أسيف،  يا  نوارة . لحظتها انبرت ابتسامة خاملة بين شفاهها، أهلا بك يا رجل، كيف الحال؟. هي كلمات تخرج مقتضبة ودالة من نوارة على شوق دفين يسكنها منذ اللقاء الأول، إنها تعابير دلالات الخوف المركب الذي يلفها ويلقي بها في مساحة الإطباق الضيق.

المشهد الأول:

غياب تواصل أسيف بنوارة والذي قد ساد بعده اتساعا منذ حادثة فجوة سقوط الحياة، جعلته يتلعثم في الكلام بين الترحيب و البحث عن فتح حوار ذكي بين قلبين، جعله يبحث عن جمل قصيرة ودالة لتذويب الارتباك في الخطاب. سماع خطوات الأم  أريناس المرفقة بدقة العكاز فرض على نوارة خجلا أن تستبدل مكان تواجدها باتجاه غرفتها وتسد بابها سدا بالرفق. لأول مرة ترتمي نوارة على سريرها كالطفلة، لأول مرة تحس بدفء حياة تنبعث من الهاتف حرارة. بعد آيات الترحيب والوفاء لصدق الموروث الاجتماعي المغربي، سأل أسيف نوارة عن حال الحب عندما تدق نواميس الاشتياق . الآن أصبحت الكرة في مرمى نوارة هدفا سليما، الآن لابد من الاعتراف بالحقيقة الدفينة، لا بد من تمزيق الخوف والتردد وكبح تموجات الصدمات الماضية. قبل الجواب توسطت نوارة سريها بمقابلة المرآة وخصلات شعرها بالتبعثر تغطي نصف وجهها، أكدت أنها على خير ولا يخصها سوى النظر في وجه أسيف، وأن لا مرد من قدر سكونية الحياة التي تركب مسار حياتها اليومية. حينها جاءها صوت كلمات حب من أسيف، جاءها الاعتراف بأن عشقها سكن قلبه، توصلت بمفيد العبارة أن الحب أشتعل موقد قلبه. برهة ساد متسع الصمت عند نوارة، وكأن حرارة الهاتف قد توقفت صدى مرورها، ساد الرعب أجزاء جسمها وزاد قلبها إخفاقا، صمت نوارة لم يمنع أسيف من مواصلة الكلام المباح واستحضار يوم  لقاء تقايس الأبدان ، لم يمنعه الصمت الجانبي من الاعتراف بدون قيد ولا شرط أنه سقط في حب نوارة متيما.

المشهد الثاني:

ضغط كلمات أسيف المتوالية بالترادف أربك خيال نوارة وشوش على نسق تفكيرها ، حينها عرف أنه أثقل القول المتسارع و الصريح بالبيان المفيد بدون مطالع قصائد حب طللية. لكنه تخلص من التواصل الأحادي ووضع نوارة في وضعية الحب  المركب الدال، والتي لا مفر من نسج أسنادها بالوضوح والمكاشفة، ما رأيك في قولي سيدة أزهار الياسمين نوارة ؟ .

استعانت نوارة بكل معاجم التعبير و التواصل، استعانت بطراوة كلماتها الشاعرية البليغة المعنى والمشكلة بقاموس شعراء الحب العذري الأوائل و المحدثين، استعانت بالله العلي القدير الفاتح للسان بالبيان . أسيف، لن أخفيك سرا أن هناك توثر يلفني ويطوح بي ضمن مساحة جاذبية كون الحياة، هناك دوران للغرفة بعيوني يدوخني، هناك كلماتك الوافدة عبر سماعة الهاتف التي كنت منذ الزمن غير البعيد انتظر سماعها بالمباشر وبصورة تقابل أجسامنا والنظر إلى العيون بالتوازي. أسيف لن أعلن رفضا للعشق والحب، لن أكشف عن سر قلبي الذي انشغل بك . أسيف صورتك تسكنني ، تغطيني، ملمحك الذي حفرت صورة له بقلبي وبلوحات رسوماتي حاضرة عندي بقوة، ما عساي أن أقوله لك يا أسيف سوى أني أحبك ولن أقدر أن أفسر ما لا يفسر.  

المشهد الثالث:

من شرفة منزله سمع أسيف صوت مباركة حب نوارة، من تقوس جلسة أسيف المتدلية من الشرفة اعتدل حاله وقوفا. ساد الصمت المطبق بين أسيف ونوارة ، سادت لحظة الإعتراف التي سجلها التاريخ  الشفهي بينهما. إنها قبضة اعتراف الحب تولت وراء بتوافق الحبيبين، الخوف لا زال يسكن نوارة ركوبا، القلق من الاعتراف بحب أسيف أشكل عليها انطباقا وأغرقها في سرير نومها بالهدوء التام من أية حركة مدوية. لكنها في قرار نفسها الداخلية أحست بلذة عسل الحياة، أحست بالأنثى الدفينة بين ثنايا الزمن الماضي والمستقبل العنيد، أحست بالتوازن النفسي قد غطى سريرها وردا  ولف الغرفة عطرا شاعريا. فيما أسيف فقد ضبط بأنه امتلك الجزء الثاني من حياته المغيب منذ الزمن الأبعد، الجزء الذي ظل يبحث عليه في صفحات كتب ودواوين الحب وفي ملاقاة الحياة المعيشة.

المشهد الرابع:

انتهت المكالمة الممتدة بالزمن غير المعدود بأمل لقاء. لقاء لم يتم تحديد وقته ولا زمانه ولا مكانه، أي حب برئ هذا؟. انتهت المكالمة و نوارة ترقص أحاسيسها الداخلية بغرفتها، الفرحة تسكنها، تلفها تباعا مع كل خطوة متناسقة مع شعورها الداخلي . بين لهفة الحب وغفلة زمان القسوة والحزن، ومع لحظة الفرح البهيج صاحت نوارة  وهي تفتح باب غرفتها أمي، أمي الحاجة  لقد تحدثت مع أسيف ، أمي عنوانه الآن معروف، صوته أمي كصوت العندليب الصداح، أمي اليوم يوم سعدي فسحقا لزمن الخوف ... لكن الأم أريناس وهي تقف بنصف تقويسة ظهرها المعتادة ، أرخت السمع دون استراقه السبقي من باب غرفة ابنتها، دون أن تقاطعها عن كشف المستور، أحست الأم أريناس أن مراسيم الماضي عرجت عقارب أرقامها إلى نشوة فرح الحياة وفتح نوافذ الأمل بالتمام. سعادة الأم الداخلية عبرت عنه بابتسامة جعلت من نوارة ترتمي في حضنها، و كأنها الطفلة الصغيرة المدللة. عناق حمل ظهر الأم على الإعتدال وإلقاء العكاز أرضا. وضعية جعلتها تلف بذراعيها ابنتها الوحيدة. حين فكت نوارة يديها من عنق أمها ورفعت رأسها ، لاحظت دموع فرح الأم، أحست لزوما بفورة حب الأمومة ، أحست أن العلاقة مع الأم كالخبز والقهوة في أغنية مارسيل خليفة.

المشهد الخامس:

بعيدا وفي المكان التاريخي من المدينة يسكن أسيف، في غرفة نومه وبشرفتها المطلة على الحارة بمتسع دائرتها جلس. إطلالة تحول توتة التاريخ المريني دون رؤية البعد القاصي للمدينة، لأول مرة أشعل أسيف المذياع بدل السيجارة، أغنية الراديو كانت للمطرب إبراهيم العلمي هذا شحال،"ما سولتي فيي، هذا شحال ما حن قلبك ، هذا شحال وأنا قلبي فان، هواك ما هناني، طال صبري، ولا عرفت فين نصيبك...". في حين كان ترديد أسيف لمقطع لازمة الأغنية الأخير، حيث حذف منها حرف النفي (لا) ورددها"... عرفت فين نصيبك " . صدفة  سماع الأغنية كسر ارتباك أسيف ، صدفة ذوبت جليد حب القلب إلى نهر فياض المشاعر. أسيف أصبحت حركاته سريعة تشع بميلاد الأمل، أصبح يحن إلى حظوة اللقاء بنوارة...الأغنية تمتد نغماتها، وأسيف قد مد يده إلى السماء...تمتما ته لا ندري بيان كلامها  بالتدقيق، ولكن وثوقنا الكامل أنه يدعو الرب بلم حضني الحبيبين يوما. الأغنية لازالت تمتد إلى أن سمع " شحال من رسالة كتبت لك، شحال من كلام قلت لك، عييت أتسنى جوابك، ما جاني جواب، أنا عييت نتسى سلامك، آو اسمع كلامك، يفرح قلبي بأنغامك، ويرتاح من العذاب...".