محسن الأكرمين

حين صُنعت كوابيس ليلتي وجدت نفسي وقد افتقدت روحي جانبا، وجدت نفسي كل صباح مكبلا بحديد سحر أسود الصنع لا مفر لي منه. لروحي حياة اشتركت فيها الفرح واللعب والبكاء، لروحي فتات ماض يفوح تناوبا بين راحة يد جرح وبسمة صلبة تكابد صعاب ما يخفيه المستقبل. حين أستحضر روحي منفصلة عن الجسد أحس بالبون البعيد بين الذات والروح، أحس أن الحياة لعبة أرجوحة بهلوان بدوام حركات دقات القلب.
 
روحي ممكن أن تبتعد عني بنقط لانهاية وتعود إلي بشهقة حياة. روحي تسكنني لزاما، ثم تفارقني في مواضع شتى. اليوم فكرت في أن أسقط روحي في شرك المساءلة. قررت محاكمتها عن سلك أقصر طريق بالابتعاد عن الجسد المتحرك بلوعة الشوق، قررت السؤال عن حب خلق الموت بالفراق قبل بدء عشق الحياة. لكن، لم تكن محاكمة روحي عن جرم اقترفته في حق الجسد، بل كانت محاكمة ربح رهان سماع بيان فصل القول بين الصدق والكذب.
 
تلك الليلة كانت باردة الأطراف، في رعشة برد مدوي من نوافذ غرفة أرضية انتابني عرق حنين مشوش سكن أفكاري بالتردد، حينها فكرت وقدرت العلاقة بين روحي الثائرة بالجذرية وبين جسمي المتهالك فوق فراش ليل لا ضوء قمر يخفي سواده الدامس. حدثت روحي وأنا أبتعد عن ملازمة ملمس تواجدها حتى لا أُثير حنق الجسد. أيتها الروح العلية احك بلا انقطاع عن الألم، عن الفرح، عن الدمعة الممطرة بلا استمطار ولا صلاة استسقاء مصلى، احك فأنا الإنصات كاملا . هنا شاهدت الجسد يلتحف غطاء التوتر ويستدير عن مواجهة العيون النضرة المنتظرة لفيض الحكي، هنا سكنت حركاته وسك سماع الأذنين شمعا ونام نوم المستمع إلى صمت الحياة الداخلية.
 
حينها رأيت روحي ترفع عن وجهها حجاب الوقار وتستند على عكاز نواح بكاء مسموع، و صوبت صوتا بسهام نبال مركز القول المدمر للجسد. هنا انتفض صوتها المكتنز بالجهر المدوي، هنا روحي استحضرت كل مساوئ حياتها المعيشة ضمن مخالطة الجسد و معاشرته على الدوام ، هنا فصلت القول في إمكانية فتح صفحات كناش الذنوب الأفقية والعمودية من جهة اليسار. لكنها أخيرا نادت الجسد المتخفي باستدارة مائلة خلف الستار الأبيض وقالت، أنت بريء ولا ذنب لك البتة. كيف أيتها الروح القاسية على الجسد بالفراق؟، كيف أيتها الروح المحاسبة بالمساءلة ؟. حينها رمى الجسد الغطاء عن وجهه ومزق ستار مسكوتات صك صمت الحياة. هل حقا أنا الجسد ممكن أن أحتفي بحكم براءة مساري حياتي؟. هنا روحي التفت عن نفسها و اقتعدت موضعا علويا، موضعا أخفي نصف صورتها وترك النصف المتبقي بالقلة تحت مجهر نور شمس خافت، و ناولت الجسد بسؤال عفوي. نعم، قالت روحي لجسدي، هل تعرف الذئاب التي قتلت يوسف؟، قال الجسد، لا. قالت الروح أنت برئ براءة الذئاب من دم يوسف. هنا ابتسم جسدي وتساءل بالجهر، ومتى كانت الذئاب بريئة؟، متى كان جرم الدم الظاهر بأنياب الذئاب إقرار بأنها هي القاتلة؟.
 
بين نور النصف المتبقي من روحي بالظهور، ومنديل أبيض يرتشف من عرق جبين جسدي قطرات حياة، استدارت روحي بأنفة العفة، نعم أنت الجسد الذي تحكمت فيك حتى وإن رفع عنك القلم نوما، أنت الجسد الذي سلبته حرية الإختيار، أنت الجسد الذي سلبته التفكير العقلي وأسكنت فيه فكر الأسطورة والشيطنة، أنت الجسد الذي أضاع حرية القرار.
 
حينها رأيت جسدي يبكي دمعا، يترنح من قوة أنه عاش مملوكا لمحسوسات لصيقة، رأيت جسدي لأول مرة ينتفض أمام روحي لما قرار الفراق إذا؟، لما الابتعاد؟، لما أسهل الطرق إلى الجنة الموت والابتعاد عن الحياة؟.
 
حل الصمت المكان، حين دخل الحوار بين الجسد والروح خانات فلسفة سؤال الوجود. سكن بحر التفكير بمقاطع متنافرة حين أدار جسدي ظهره لروحي. شاهدت غياب الروح صبحا توسلت لقلب الجسد أن يكفكف دمعه ولو بالصلح التواردي. حينها قسمت رؤيتي بينهما بالتساوي التناظري، حينها حدثني الصمت الذابل بين روحي وجسدي فقلت وأنا في عز غرق نومي، إنه الموت حاضر بالقرب من مكاني، إنه الموت يحضر مختبر لغز الابتعاد والفراق ورحيل الطيب من ورده.
 
لكني قررت من غير عادتي أن أقيم صلحا توافقيا قبل زوال شمس المساء، صلحا ممكن أن يؤجل طلاق ظل الجسد عن الروح. لحظتها فكرت في قبلة تلقى على جبين روحي في علو النصف الذي يشع بضياء شمس، قررت أن ألف يد جسدي قبضا بالمسلك على لحن حزن روحي، قررت أن تكون حواسي القلبية مستيقظة بلا نوم ، قررت ألا أعود إلى النوم خوفا من رحيل روحي دون تحية حارة لجسدي.