محسن الأكرمين - مكناس / جديد انفو

كل منا في حديثه يعلن التباكي على الوضعية غير السوية التي تجاوزتها عتبات إخفاق التعليم العمومي المغربي بإجماع جماعي . قفا نبك هو العنوان السديد للمشاورات الموسعة التي دفعت بها وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني حول واقع المدرسة المغربية وآفاق التطوير الاستشرافية.

مشاورات حركت البركة الراقدة من العمق ، واستل الكل خنجره الضارب وشرع في تحليل وتفكيك إشكالات واختلالات منظومة التربية والتكوين .ثم شرع الجميع في البحث عن المشجب المحتضن لكل الإخفاقات من الفصل الدراسي إلى الوسط المدرسي إلى المحيط  المجالي للمؤسسات التعليمية بشموليته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية .

كل من شارك في المشاورات اقتنى لنفسه صك الغفران من مسؤولية ما آل إليه تعليمنا الوطني .وأطلق العنان بحرية في نقد وتجريح المكونات الأخرى المباشرة أو غير المباشرة بأزمة المدرسة العمومية . الكل يستمع ويدون الملاحظات بتفان ومسؤولية وكأن الأمر فتح مبين لحصر اختلالات وإشكالات المنظومة التعليمية . في حين أن جل أسباب إخفاق المدرسة العمومية معلومة لدينا بالنتائج الهزيلة وطنيا ودوليا ،وأضحينا كمن يغرفها من بحر.

من تم ، ألا يمكن القول أننا نتقن النقد والتجريح بنقشه على الحجر ولا نستطيع تنزيل البدائل بواقعية الوضعية المغربية ؟ ألا نقر أن نكسة المنظومة التعليمية المغربية  زكيناها جميعا بنية غير مبيتة القصد ؟

ترك للمؤتمرين في اللقاءات التشاورية حول المدرسة العمومية الحق المكفول في التنفيس عن الذات ولو كان بالقول المطنب ، فإن الفعل هذا له مقاصده النفسية التسويغية . وهو النجاح الأول لعملية استقطابها لجل تمثيليات شرائح المجتمع المدني والسياسي والاقتصادي والديني . وفي الأخير وصلت المشاورات بعد أن أنهكت بالتقليب النقدي إلى المجتمع المدرسي المحفظ داخل أسوار المدرسة العمومية العليلة.  فإذا كانت رزمة رصد الإختلالات لم تنفك تنتهي إلا بإرجاع الخنجر إلى غمده وركوب استشراف المستقبل عبر توطين الاقتراحات والتوصيات والبدائل الممكنة ، فإن اشتغال خبراء وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني تم من خلاله إعداد رقعة شطرنج للتدابير ذات الأولوية - (والمؤلفة من 23 إجراء موزعا على 9 محاور)- والتي تكتسي بطبيعة تفكيرنا القبلي صبغة القشة المنقذة من الغرق النهائي/الحتمي . فيما  الضفة الموازية بمفترق العلو والتمثيلية . المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي فقد اشتغل على هندسة بناء الرؤية المستقبلية 2030 وأعد لنا تقريرا استراتيجيا برافعات  أحادية العدد للتجديد " تشكل خارطة الطريق الناجحة لتحقيق التغيير المنشود... ورهانات كبرى في ترسيخ مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص ،ومدرسة الجودة للجميع،ومدرسة الارتقاء الفردي والجماعي ..." (من كلمة رئيس المجلس المقدمة أمام الملك/20 ماي 2015).

في الأخير توحد مستخلص عصير الوزارة الوصية الرامي إلى إصلاح المدرسة المغربية والرفع من مرد وديتها ،وفواكه الرافعات الإستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ليشمل ثلاث محاور ركيزة أساسية وهي :

الأولى : حصر أھم مكتسبات منظومة التربیة والتكوین السالفة التي ینبغي تعزیزھا وتثمینھا كنقط قوة للمنظومة.
الثانية :  تصنيف الاختلالات التي تعاني منھا منظومة التربیة والتكوین باستحضار المنهاج الافتراضي المعتمد في التقويمات الدولية .
الثالثة :اقتراح البدائل الإستراتيجية والتصورات الكفیلة بإخراج المنظومة من وضعيتها المعيبة .

انتهى التحليل الاستراتيجي بمعرفة آليات الموازنة بين عناصر القوة والضعف في البيئة المخملية للمنظومة التربوية العمومية . وكيفية توظيف البدائل لتغطية الاختلالات المزمنة ، والتفكير في المخاطر المحتملة (الداخلية والخارجية ) المحدقة بالعمليات الإجرائية للإصلاح . ثم أرجعت كرة الثلج إلى القواعد لتفكيك الشوائب غير المرغوب فيها بالتصويب والتعديل.

كثلة الثلج  فتحت لها ورشات المعالجة والتوضيب ،وهنا نقر جميعا أوليا باستحسان مقصد منهجية الوزارة بإقحام الجميع في عملية الإصلاح التربوي المرتقب عبر اعتماد مقاربة تفاعلية متحركة بأسهم صاعدة ونازلة ، وإعلان انتهاء زمن هبة إنزال الإصلاح القسري عموديا .

الآن حتى لا نتيه بكثرة الإجراءات (23) والمحاور (9) سنركز في تحليلنا الملاحظ على المحور الأول : التمكن من التعلمات الأساس ويهم الإجراء الأول :مسارات تعلم جديدة للسنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائي .

مستند خلاصة وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني في هذا المحور ،أورد ت فيه السياق العام الداعي إلى إصلاح المنظومة التربوية وهو المطلب الشعبي " الاستجابة لطلب مجتمعي متزايد بتعديل البرامج (الاستشارات المنظمة من طرف الوزارة، تقارير ودراسات وطنية ودولية/أبحاث/أسئلة برلمانية، تقارير التفتيش التربوي، الصحافة الوطنية..." . في حين أن الملك كأعلى سلطة بالمملكة أعلن غير ما مرة في خطبه عن عدم رضاه التام للوضعية المأساوية التي آلت إليها المدرسة العمومية...

فيما ركب السياق كذلك على مجموعة من المصطلحات التي ستوطئ لعملية الإصلاح ( تجديد وتنقيح وتخفيف البرامج الحالية) من هنا نسوثق قولنا أن العملية لا تعدو أن تكون إلا ترميما أي (برامج جزئية "منقحة" ) ،في حين كان مطمحنا الجماعي الأكبر هو تحديث البرامج بما يتلاءم مع التحولات الوطنية والدولية. وأين هو المطلب المجتمعي في تعديل البرامج ، أهو بتلميع  النتوءات الحادة للمنظومة،  أم بتحديث البرامج والمناهج ؟

هي تساؤلات وغيرها لرفع غيوم الإبهام عن البعد الاستراتيجي لصلاحية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني المكلفة دستوريا بإعداد المخططات العملية والبرامج الإجرائية الكفيلة بإصلاح المدرسة العمومية والرفع من جاذبية مرد وديتها .

الوزارة الوصية أرادت إصلاحا تربويا بصفر درهم يصل إلى الفصل الدراسي ويغير نسق بناء التعلمات ،وملمح تلميذ المدرسة العمومية المستقبلي ،ويفتح باب امتلاك الكفايات الأساس ولو بالحد الأدنى لنظام الجودة الوطني .

فلا دفتر تحملات يفتح الباب للتنافس بين المؤلفين ،إنه الإصلاح - (التقشفي )- المنطلق من مدارس التجريب إلى التعميم (المحدود والمطلق ) والإرساء العام . لنقر أولا بإشكال معايير اختيار مدارس التجريب بين الحضري والشبه حضري والقروي . فهل سيتم اختيارها اعتباطيا ؟أم أن الأمر فيه دعوة للتنافس عبر دفتر تحملات لكل مؤسسة تجريب / مشروع تربوي لمؤسسات التجريب .

وحتى لا نبتعد عن مؤسسات التجريب "يتم تحديد على صعيد كل أكاديمية% 10 على الأقل من المؤسسات التعليمية التي سيشملها التجريب" هي نسبة قليلة مادام أن المنتوج التربوي لهذه المؤسسات قابل للتعميم على الصعيد الوطني . وحتى لا نستبق الأحداث فلا بد من الدفع أولا في تكوين طاقم المؤسسات - (الإداري والتربوي ) - المعنية بالتجريب حول المفاهيم الأساسية لمقاربة الكفايات كمقاربة ناظمة للمنهاج والمؤشرات العامة المرتقبة من عملية الإصلاح بحدود سنة 2030 .

ومن بين الاقتراحات الأصيلة خلق شبكة جماعات مؤسسات التجريب على الصعيد الإقليمي / الجهوي ولما الوطني ضمن بوابة مسار بغاية التقاسم وتبادل الخبرات وتوطين كل تيمة مصادق عليها بالتوافق والإجماع . فيما السؤال الدخيل والعالق : هل ستخصص للمؤسسات الخصوصية نصيبها ضمن أحواض مؤسسات التجريب ؟.

إن "فتح المجال أمام المُدَرِّسين لتطبيق مقاربات ديداكتيكية مختلفة لتنمية الكفايات المستهدفة والمحددة سلفا في المنهاج " لهو الدفع إلى الإبقاء على الطرق البدائية حاضرة بالمؤسسات وبقوة ، انه الحفاظ على حماة الماضي الحكواتي ضمن المنظومة التعليمية بزمن الحداثة الرقمية . فتنمية الكفايات المستهدفة لا يتم باختيارات المدرس الذاتية فقط ، بل لها عدة متطلبات تتحد وتتقاطع بين الوسط المدرسي وبين توفر كل مؤسسة على موارد (بشرية ومادية ) كفيلة بتنمية الكفايات المحددة سلفا في المنهاج ، وبين امتلاك المدرسين لآليات التدريس السليمة والحديثة، وبين تحديث المؤسسات التعليمية العمومية ... كل هذه المطالب معقولة في تنفيذها وأخرى كثيرة إن تم استصغار حجم ضررها فلن يقاوم الإصلاح لأكثر من مدة البرنامج الاستعجالي وينهار داخليا أو بقرار سياسي .

وخير القول البديل هو العمل وفق مشروع تربوي للمؤسسات المدرسية بقيمة دفتر تحملات مصادق عليه وفق رؤية إستراتيجية إقليمية /جهوية / وطنية ،وهو الأمر المغيب في آليات الإصلاح وفق التدابير ذات الأولوية  ،رغم أن الوزارة الوصية أقعد المدارس وأقامتها لإرساء مشاريع تربوية لكل المؤسسات العمومية  وفق الخطة الإستراتيجية الوطنية (المراسلة الوزارية 14/159 بتاريخ 25نونبر2014).

إن "ضمان التمفصل بين مختلف المواد الدراسية في أفق تنظيمها في مجالات وحقول معرفية عوض برامج دراسية مفككة ومواد لا ناظم بينها"  لهو الأمر الذي تمت المطالبة به في جل التقارير المرفوعة سلفا من قبل مجالس المؤسسات. لذا لا بد من تثمين الأمر والدفع به إلى الأمام عبر وضع التعليم الابتدائي تحت مجهر التكامل لخلق حقول معرفية متداخلة لدعم تنمية الكفايات المستهدفة ، وتوطين مبدأ التخصص "المدرس المتخصص في القطب التعليمي الواحد " الذي أغفلته الوزارة في محاورها وإجراءاتها المواكبة .

إلا أن " تحقيق قدر كبير من الملاءمة بين مُكَوّنات المنهاج الوطني في اللغة والعلوم والرياضيات والمنهاج الافتراضي المعتمد في التقويمات الدولية " هو تفكير بادئ ذي بدء في الآخر المتحدي لتعلمينا ومدرستنا بقوة حصاد منتوجه الملائم وجودته الناظمة. آخر لا يتموقع في مذهبنا التربوي ب "الغرب " بل هو حاضر في كل الدول التي يتم ترتيبها ضمن صفوة عطاء منظوماتها التربوية .

مطلب " تخفيف الغلاف الزمني لأنشطة التدريس والرفع من حصص أنشطة التعلم الجماعية المؤطرة وحصص التعلم الذاتي." هو قرار جمد منذ أن أورده الميثاق الوطني للتربية والتكوين وظل حبيس النص دون التطبيق " تبحث سلطات التربية والتكوين في مبدأ تخفيض عدد الساعات الدراسية الأسبوعية بالنسـبة للتلاميـذ،خصوصا في التعليمين الابتدائي والإعدادي، وذلك في إطـــار تجديد الـبرامج والمـــناهج طبـــقا للمادتين 106 و 107" ( الدعامة الثامنة : استعمالات الزمن والإيقاعات المدرسية والبيداغوجية الفقرة 109)، وحتى لا يتم تسنين أمور مستعجلة فلا بد من ضبط آليات التخفيف "الغلاف الزمني " وكيفية استغلال الفائض من الزمن المدرسي في خطط المواكبة التربوية والحياة المدرسية بشموليتها بالمؤسسات التعليمية العمومية . فالفهم الشائع بمضمون النص يحولنا إلى تعويم التخفيف بين استعمال زمن الأساتذة والزمن المدرسي للمتعلم .

فمطلب الانتقال من البعد الكمي إلى النوعي عبر " تخفيف البرامج ما أمكن بحذف كل الأمور المكررة أو غير ذات فائدة أوالزائدة عن الحاجة " ممكن التحقق والانتقال بتعليمنا من نمط التعلم واكتساب المعارف بالتكرار إلى بعد التعليم النوعي الذي يستهدف مهارات وقدرات المتعلمين ...وما تنظيم جديد لمكونات المنهاج (في ثلاثة أقطاب) إلا عملية لغربة الكم نحو النوع :

قطب اللغات.

قطب الرياضيات والعلوم.

قطب التنشئة والتَّفَتُّح (socialisation & épanouissement): التربية الدينية والاجتماعية والفنية والبدنية.

إنها عمليات ناظمة كما أقرتها الوزارة الوصية وأطلقتها – (إعادة النظر في المنهاج والبرامج والطرائق البيداغوجية في اتجاه تخفيفها وتنويعها ) - لتصفية صعوبات بناء الموارد في أفق امتلاك الكفايات الأساس ،و بناء فكري يجمع بين الأصالة والثوابت الوطنية  والانفتاح على العوالم الكونية المتجددة ،وتنمية إدماج مهارات الملاحظة والتحليل والتفكير/ والتفكير النقدي . في حين لا تزال بعض الأمور تحتاج كشف حجابها فيما يهم التكوين بشقيه الأساس والمستمر والتخصص كما سلف ذكره .

إنها بعض الملاحظات الأولية التي لا نرتضي منها العدمية وإنما غايتنا أولا الدفع بعملية الإصلاح عبر منهجية لا تركب قطار الاستعجال . فحتى إقرارنا في " الإعداد الميداني لتطبيق رؤيا 2015-2030" فهو أمر غير محسوب بالدقة المتناهية ،لان أضعف مدة للتجريب المتأني تستغرق ثلاث سنوات بالاستهلاك الزمني قبل الإرساء والتجريب .

فالمنتوج الأولي يمكن تقييم جودته عند متم مخارج "الجامعة " سنة 2033 .ولكن الأهم عندنا هو تحديث المناهج بما يضمن الملاءمة التامة بين التحولات الوطنية والعالمية.ولما لا نقول بضمان مواكبة المدرسة لكل التغيرات السريعة والدفع بالوسط الاجتماعي إلى الانفتاح التام على منافذ التعليم العمومي.